والقوم لا يقولون بهذا ، فلا يمكنهم الاستدلال بالسمع على شيء أصلا. وعلى أنا قد بينا أن النظر ليس هو الرؤية ، وتكلمنا عليه فلا وجه لإعادته.
ومما يتعلقون به قوله تعالى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] قالوا : فهذا سؤال ، فقد سأل موسى الله الرؤية ، فدل ذلك على أنها جائزة على الله تعالى ، فلو استحال ذلك لم يجز أن يسأله. قالوا : والذي يدل على أن السؤال سؤال موسى عليهالسلام وجهان ، أحدهما هو أنه أضاف الرؤية إلى نفسه ، والثاني أنه تاب ، والتوبة لا تصح إلا من فعل نفسه.
وقد أجاب شيخنا أبو الهذيل عن هذا : بأن الرؤية هاهنا بمعنى العلم ولا اعتماد عليه ، لأن الرؤية إنما تكون بمعنى العلم متى تجردت ، فأما إذا قارنها النظر فلا تكون بمعنى العلم. فالأولى ما ذكره غيره من مشايخنا ، وهو أن السؤال لم يكن سؤال موسى وإنما كان سؤالا عن قومه. والذي يدل عليه قوله عزوجل لمحمد صلىاللهعليهوآله : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] وقوله عزوجل : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥] فصرح الله تعالى بأن القوم هم الذين حملوه على هذا السؤال.
ويدل عليه أيضا قوله حاكيا عن موسى عليهالسلام : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) [الأعراف : ١٥٥] فبين أن السؤال سؤال عن قومه ، وأن الذنب ذنبهم.
فإن قيل : لو لا أن الرؤية غير مستحيلة على الله تعالى وإلا لما جاز أن يسأله ذلك لا عن نفسه ولا عن قومه ، كما لا يجوز أن يسأل الله عن الصاحبة والولد لما كانت مستحيلة عليه.
قلنا : فرق بينهما : لأن مسألة الرؤية يمكن معرفتها بالسمع فجاز أن يطلب فيها دلالة سمعية ، بخلاف مسألة الصاحبة والولد.
وقيل : إنه علم أن الرؤية مستحيلة على الله ، ولكن سأله عن ذلك لأن الأمة لم يكن يقنعهم جوابه ، فسأله الله سبحانه ليرد من جهته جوابا يقنعهم.
فأما ما ذكره في الصاحبة ، والولد فلا يصح ، لأنه إنما لم يسأل لا لأن الصاحبة والولد مستحيل على الله تعالى والرؤية غير مستحيلة ، بل لأنهم لم يطلبوا منه ذلك ، حتى لو قدرنا أنهم طلبوا منه ذلك ، وعلم أنه لا يقنعهم جوابه لجاز أن يسأل الله تعالى