العلم بأنه تعالى لم يقلب الجبال ذهبا ضروري خلقه الله تعالى فينا أبدا ، فلا يشبه ما ذكرناه.
فإن قيل : ألستم جوزتم أن يقلب الله صورة زيد إلى صورة أخرى ثم قطعتم على أنه لم يفعل ، فهلا جاز مثله في مسألتنا. والجواب عنه مثل الجواب عما مضى ، لأن كلامنا في علمين أحدهما طريق إلى الآخر. فقلنا : من أفسد تلك الطريقة على نفسه ، لا يحصل له العلم الذي يحصل من ذلك الطريق. والعلم بأن زيدا هو الذي شاهدناه من قبل ، لا يستند إلى طريقة قد أفسدناها على أنفسنا ، فجاز أن نقطع على أنه هو.
فإن قيل : إن العلم بذلك يستند إلى طريق وهو الإدراك ، وقد أفسدتم بتجويزكم على أنفسكم أن يقلب الله صورته فلا يمكنكم القطع على أنه هو ، قيل له : ليس الأمر على ما ظننته لأن هذا العلم لا يستند إلى الإدراك ، إذ لو كان كذلك لوجب فيمن أدرك زيدا ثم شاهده بعد ذلك أن يثبته لا محالة والمعلوم خلافه ، فإن في الناس من يشاهد شخصا ، مرة ، ثم إذا رآه ثانيا تبينه وتعرفه ، وفيهم من يشاهده مرارا ثم إذا رآه بعد ذلك لم يتبينه ولم يعرفه ، ولا ذلك إلا لأن هذا العلم غير مستند إلى الإدراك ، فصح ما قلناه.
فإن قيل : ما ألزمتمونا في الإدراك لازم لكم في الشعاع ، لأن من الجائز عندكم أن يقلب الله شعاع أحدنا عن سمت المرئي ، ومع ذلك يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء ، كذلك في مسألتنا ، قلنا : إن من قلب الله تعالى شعاعه عن سمت المرئي لا تكون حاسته صحيحة ، بل يكون حاله وحال الأعمى سواء ، وكلامنا في الحي إذا كان صحيح الحاسة ، فلا يلزمنا ما ذكرتموه.
فإن قيل : إن العلم بأنه ليس بحضرتنا شيء علم يخلقه الله تعالى فينا ابتداء ، لا أنه يستند إلى طريق قد أفسدناه ، قلنا : ليس الأمر على ما ظننته ، بل العلم بأنه ليس بحضرتنا شيء ، يستند إلى أنه لو كان لرأيناه ، وعلى هذا فإن الأعمى لما فقد هذه الطريق لم يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء ، والمبصر لما حصل له هذا العلم أمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء ، فعلمنا أن أحد العلمين يستند إلى الآخر ، والأول طريق إلى الثاني ، فمن أفسد على نفسه العلم الأول لا يحصل له العلم الثاني. فقد صح بهذا الجملة ووضح أن الإدراك ليس بمعنى ، وأن أحدنا حاصل على الصفة التي لو رأى إلا لكونه عليها ، والقديم تعالى حاصل على الصفة التي لو رئي إلا لكونه عليها ، والموانع المعقولة مرتفعة.