فلأنهم نسبوا هذا الفعل (١) القبيح إلى من كان مبرأ عنه ، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه ، وذلك هو الظلم. وأما كونه «زورا» فلأنهم كذبوا ، قال أبو مسلم : الظلم تكذيبهم الرسول (٢).
الشبهة الثانية : قوله تعالى : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. اكْتَتَبَها) الآية. يجوز في «اكتتبها» ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون حالا من «أساطير» (٣) ، والعامل فيها معنى التنبيه أو الإشارة المقدرة ، فإن «أساطير» خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هذه أساطير الأولين مكتتبة (٤).
الثاني : أن يكون في موضع خبر ثان ل «هذه».
الثالث : أن يكون «أساطير» مبتدأ و «اكتتبها» خبره (٥). و «اكتتبها» الافتعال هنا يجوز أن يكون بمعنى : أمر بكتابتها كافتصد (٦) واحتجم (٧) إذا أمر بذلك (٨) ويجوز أن يكون بمعنى كتبها ، وهو من جملة افترائهم عليه ، لأنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ، ويكون كقولهم : (استكبه واصطبه ، أي: سكبه وصبه) (٩)(١٠) ، والافتعال مشعر بالتكليف (١١). ويجوز أن يكون من كتب بمعنى جمع من الكتب ، وهو الجمع (١٢) لا من الكتابة بالقلم. وقرأ طلحة «اكتتبها» مبنيا للمفعول (١٣).
قال الزمخشري : والمعنى : اكتتبها له كاتب ، لأنه كان أميا لا يكتب بيده ، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير ، فصار اكتتبها إياه كاتب ، كقوله : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥] ، ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إيّاه فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان منصوبا بارزا (١٤) ، وبقي ضمير الأساطير على حاله ، فصار «اكتتبها» كما ترى (١٥). قال أبو حيان : ولا يصح ذلك على مذهب جمهور البصريين ، لأن «اكتتبها» له
__________________
(١) في ب : للفعل. وهو تحريف.
(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٠.
(٣) انظر التبيان ٢ / ٩٨٠.
(٤) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٩ ، البيان ٢ / ٢٠٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.
(٥) قالهما أبو حيان. البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.
(٦) الفصد : شق العرق. فصده يفصده فصدا وفصادا ، فهو مفصود وفصيد ، وفصد الناقة : شق عرقها ليستخرج دمه فيشربه. اللسان (فصد).
(٧) احتجم : طلب الحجامة ، والحجم : المص ، يقال حجم الصبي ثدي أمه إذا مصّه. اللسان (حجم).
(٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.
(٩) قال الزمخشري :(«اكتتبها» كتبها لنفسه وأخذها كما تقول : استكب الماء واصطبه إذا سكبه وصبّه لنفسه) الكشاف ٣ / ٨٨.
(١٠) ما بين القوسين في ب : استكه واصطكه أي سكه وصكه.
(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.
(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.
(١٣) المختصر (١٠٣) ، المحتسب ٢ / ١١٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.
(١٤) في ب : وزنا. وهو تحريف. وفي الكشاف : بارزا منصوبا.
(١٥) الكشاف ٣ / ٨٨ ـ ٨٩.