والذي يظهر أن الأولى يشبه أن تكون للآلة. (وَمَنْ عاقَبَ) مبتدأ خبره (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ)(١).
فصل
المعنى : الأمر ذلك الذي قصصنا عليك (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) أي قاتل من كان يقاتله ، ثم كان المقاتل مبغيا عليه بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن وابتدىء بالقتال (٢).
قال مقاتل : نزلت في قوم من قريش أتوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من (٣) المحرم ، وكره المسلمون قتالهم ، وسألوهم أن يكفوا عن القتال من أجل الشهر الحرام ، فأبوا وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم ، وثبت المسلمون لهم فنصروا ، فوقع في أنفس (٤) المسلمين من القتال في الشهر الحرام. فأنزل الله هذه الآية ، وعفا عنهم وغفر لهم (٥).
والعقاب الأول بمعنى الجزاء ، وأطلق اسم العقوبة على الأول للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(٦)(يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ)(٧)(٨).
وهذه النّصرة تقوي تأويل من تأول الآية على مجاهدة الكفار لا على القصاص لأن ظاهر النص لا يليق إلا بذلك. وقال الضحاك : هذه الآية في القصاص والجراحات لأنها مدنية (٩).
قال الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه : من حرّق حرّقناه ، ومن غرّق غرّقناه لهذا الآية ، فإن الله تعالى جوّز للمظلوم أن يعاقب بمثل ما عوقب به ووعده النصر. وقال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى : بل يقتل بالسيف. فإن قيل : كيف تعلق الآية بما قبلها؟
فالجواب : كأنه تعالى قال : مع إكرامي لهم في الآخرة بهذا الوعد لا أدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم (١٠).
ثم قال : (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) أي إن الله ندب المعاقبين إلى العفو عن الجاني بقوله : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ)(١١)(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(١٢)(وَلَمَنْ صَبَرَ
__________________
(١) المرجع السابق.
(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٠.
(٣) في الأصل : بقين في. وهو تحريف.
(٤) في ب : أنفسهم. وهو تحريف.
(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٠.
(٦) [الشورى : ٤٠].
(٧) [النساء : ١٤٢]. وذلك على سبيل المشاكلة ، وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقا أو تقديرا. انظر الإيضاح ٣٦٠.
(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٠ ـ ٦١.
(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٠.
(١٠) المرجع السابق.
(١١) [سورة الشورى : ٤٠].
(١٢) [البقرة : ٢٣٧].