وجب عليهم قبول قوله في الحال ، ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته ، لأنّ الدولة لا تدل على الحقيقة ، وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر (١).
قوله تعالى : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ)(٣٠)
قوله تعالى : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي : أعنّي على هلاكهم بتكذيبهم إياي (كأنه قال : أهلكهم بسبب تكذيبهم) (٢)(٣). وقيل : انصرني بدل ما كذبون كما تقول : هذا بذاك ، أي بدل ذاك ومكانه (٤). وقيل : انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب ، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(٥).
ولمّا أجاب الله دعاءه قال : (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) أي : بحفظنا وكلائنا ، كان معه من الله حفّاظا يكلأونه بعيونهم لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه عمله (٦).
قيل : كان نوح نجارا ، وكان عالما بكيفية اتخاذ الفلك (٧).
وقيل : إن جبريل ـ عليهالسلام (٨) ـ علّمه عمل السفينة. وهذا هو الأقرب لقوله : (بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا)(٩). (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا). واعلم أن لفظ الأمر كما هو حقيقة في طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء ، فكذا هو حقيقة في الشأن العظيم ، لأن قولك : هذا أمر تردد الذهن بين المفهومين فدل ذلك على كونه حقيقة فيهما (١٠). وقيل : إنما سماه أمرا تعظيما وتفخيما كقوله : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً)(١١)(١٢).
__________________
(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٩٣ ـ ٩٤.
(٢) أي : أن الباء للسببية. انظر الكشاف ٣ / ٤٦ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٩٤.
(٣) ما بين القوسين سقط من ب.
(٤) أي أن الباء للبدل. انظر الكشاف ٣ / ٦٤ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٩٤.
(٥) انظر الكشاف ٣ / ٤٦ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٩٤.
(٦) المرجعان السابقان.
(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٤.
(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.
(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٤.
(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٥.
(١١) من قوله تعالى : «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» [فصلت : ١١].
(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٥.