الخامس : أنها منصوبة على حذف كاف الجر ، أي : كملة أبيكم. قاله الفراء (١) ، وقال أبو البقاء قريبا منه ، فإنه قال : وقيل تقديره : مثل ملة ، لأن المعنى سهل عليكم الدين مثل ملة أبيكم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه (٢).
وقوله : «إبراهيم» بدل أو بيان أو منصوب بأعني.
فصل
والمقصود من ذكر «إبراهيم» التنبيه على أن هذه التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم والعرب كانوا محبين لإبراهيم ـ عليهالسلام (٣) ـ لأنهم من أولاده ، فكان ذكره كالسبب لانقيادهم لقبول (٤) هذا الدين (٥). فإن قيل : ليس كل المسلمين يرجع نسبه إلى إبراهيم. فالجواب : أن هذا خطاب مع العرب ، وهم كانوا من نسل إبراهيم. وقيل : خاطب به جميع المسلمين ، وإبراهيم أب لهم على معنى وجوب إكرامه(٦) وحفظ حقه كما يجب احترام الأب ، فهو كقوله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ)(٧) ، وقال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «إنما أنا لكم مثل الوالد» (٨). فإن قيل : هذا يقتضي أن تكون ملة محمد كملة إبراهيم سواء ، فيكون الرسول ليس له شرع مخصوص ، ويؤكده قوله : (اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ)(٩).
فالجواب : إنما وقع هذا الكلام مع عبدة الأوثان ، فكأنه قال : عبادة الله وترك الأوثان هي ملة إبراهيم ، وأما تفاصيل الشرائع فلا تعلّق لها بهذا الموضع (١٠).
قوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ) في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه يعود على «إبراهيم» ، لأنه أقرب مذكور (١١) إلا أن ابن عطية قال : وفي هذه اللفظة يعني قوله : (وَفِي هذا) ضعف قول من قال : الضمير ل «إبراهيم» ولا يتوجه إلا بتقدير محذوف من الكلام مستأنف (١٢). انتهى.
ومعنى ضعف من قال بذلك أن قوله : (وَفِي هذا) عطف على «من قبل» و «هذا» إشارة إلى القرآن ، فيلزم أن «إبراهيم» سمّاهم المسلمين في القرآن ، وهو غير واضح ؛ لأن
__________________
(١) معاني القرآن ٢ / ٢٣١.
(٢) التبيان ٢ / ٩٤٩. وانظر البيان ٢ / ١٧٩.
(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.
(٤) في ب : بقبول.
(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٧٤.
(٦) في ب : الكرامة.
(٧) [الأحزاب : ٦].
(٨) أخرجه أبو داود (طهارة) ١ / ١٨ ، ابن ماجه (طهارة) ١ / ١١٤ ، أحمد ٢ / ٢٤٧ ، ٢٥٠ ، وانظر البغوي ٥ / ٦١٦.
(٩) من قوله تعالى : «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»[النحل : ١٢٣].
(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٧٥.
(١١) انظر الكشاف ٣ / ٤١ ، التبيان ٢ / ٩٤٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٩١.
(١٢) تفسير ابن عطية : ١٠ / ٣٢٧.