كان فى متناول قدرتهم وفى دائرة استطاعتهم ، ومع ذلك انصرفوا عنه. وعجزوا. فدل هذا التحدى مع الانصراف والعجز ، على أن القرآن كلام من يستطيع تصريف القلوب وتحريك الألسنة ، وهو الله وحده. أما محمد صلوات الله وسلامه عليه فمحال أن يقامر بنفسه وبدعوته ويتحدى بهذا الأمر الظاهرة سهولته ، وهو بشر لا يعلم الغيب ولا يستطيع أن يقلب القلوب ولا أن يعقد الألسنة.
وبيان ذلك أن اليهود زعموا أنهم هم الشعب المختار من بين شعوب الخلق ، وادّعوا أن الدار الآخرة وقف عليهم وخالصة لهم من دون الناس ، فخاطب الله رسوله فى سورة البقرة يرد عليهم ويتحداهم بقوله : (قُلْ : إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ثم قال : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ. وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ، فأنت ترى هذا النظم الكريم يبطل مزاعم اليهود بطلب يبدو لكل ناظر أنه هين ، وهو أن يتمنوا الموت لو كانوا صادقين فى ادعائهم أن نعيم الآخرة وقف عليهم. ولقد كان بمقدور اليهود فى العادة أن يقولوا ولو بألسنتهم : نحن نتمنى الموت ، كى تنهض حجتهم على محمد ويسكتوه. لكنهم صرفوا فلم يقولوا ولم يستطع أحد أن يقول إنى أتمنى الموت. وعلى ذلك قامت الحجة عليهم ، وبان كذبهم فى كبريائهم وغرورهم. وبلغ من أمر القرآن معهم أنه نفى عنهم هذا التمنى نفيا يشمل آباد المستقبل فقال : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً).
وها قد مضى على نزول القرآن قريب من أربعة عشر قرنا ، وما تمنى أحد منهم الموت لو كانوا صادقين. بل أعلن القرآن فى السورة نفسها مبلغ حرصهم على الحياة وأملهم فيها فقال : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ. وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ. وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ. وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ). فكان ذلك علما جديدا من أعلام النبوة ، لأنه تنويه بغيب حاضر ، لم يكن يعلمه محمد ولا قومه.