وهل تسعد بمثل هذا فى كلام البشر؟ لا ، ثم لا. بل كلامهم إن وفى بحق العقل بخس العاطفة حقها ، وإن وفى بحق العاطفة بخس العقل حقه ، وبمقدار ما يقرب من أحدهما يبعد عن الآخر ، حتى لقد بات العرف العام يقسم الأساليب البشرية إلى نوعين لا ثالث لهما :
أسلوب علمى وأسلوب أدبى : فطلاب العلم لا يرضيهم أسلوب الأدب ، وطلاب الأدب لا يرضيهم أسلوب العلم. وهكذا تجد كلام العلماء والمحققين فيه من الجفاء والعرى ، ما لا ينهز القلوب ويحرك النفوس ، وتجد فى كلام الأدباء والشعراء من الهزال والعقم العلمى ما لا يغذى الأفكار ويقنع العقول ؛ ذلك لأن القوى العاقلة والقوى الشاعرة فى بنى الإنسان غير متكافئة. وعلى فرض تكافئهما فى شخص فإنهما لا تعملان دفعة واحدة بل على سبيل البدل والمناوبة. فكلام الشخص إما وليد فكرة ، وإما وليد عاطفة ، وإما ثوب مرقع يتألف من جمل نظرية تكون ثمرة للتفكير ومن جمل عاطفية تكون ثمرة للشعور. أما أن تأتى كل جملة من جمله جامعة للغايتين معا. فدون ذلك صعود السماء. وكيف يتسنى ذلك للإنسان ، وهو لم يوهب القوتين متكافئتين ، ولو تكافأتا لديه فإنه لا يستطيع أن يوجههما اتجاها واحدا فى آن واحد متقارنتين «ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه» أما القرآن فإنه انفرد بهذه الميزة بين أنواع الكلام ، لأنه تنزيل من القادر الذى لا يشغله شأن عن شأن ، والذى جمع بين الروح والجسد فى قران ، (فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)
الخاصة الرابعة :
جودة سبك القرآن وإحكام سرده (١). ومعنى هذا أن القرآن بلغ من ترابط أجزائه ، وتماسك كلماته وجمله وآياته وسوره ، مبلغا لا يدانيه فيه أى كلام آخر ، مع طول نفسه ،
__________________
(١) يقال درع مسرّدة ومسرودة أى منسوجة متداخلة حلقها بعضها فى بعض فالمراد هنا أن القرآن مترابط الأجزاء متناسب تناسبا قويا.