ومثال النسخ بلا بدل أن الله تعالى أمر بتقديم الصدقة بين يدى مناجاة الرسول فقال. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) ثم رفع هذا التكليف عن الناس من غير أن يكلفهم بشيء مكانه ، بل تركهم فى حل من ترك الحكم الأول دون أن يوجه إليهم حكما آخر. فقال : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ).
شبهة ودفعها
ذلك مذهب الجمهور من العلماء ، ولكن بعض المعتزلة والظاهرية يقولون : إن النسخ بغير بدل لا يجوز شرعا. وشبهتهم فى هذا أن الله تعالى يقول : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها). ووجه اشتباههم أن الآية تفيد أنه لا بد أن يؤتى مكان الحكم المنسوخ بحكم آخر هو خير منه أو مثله. ولكنها شبهة مدفوعة بما ذكرنا من النصين السابقين فى تقديم الصدقة بين يدى الرسول صلىاللهعليهوسلم. واحتجاجهم بآية «ما ننسخ» على الوجه الذى ذكروه احتجاج داحض ، لأن الله تعالى إذا نسخ حكم الآية بغير بدل ، فهمنا بمقتضى حكمته أو رعايته لمصلحة عباده أن عدم الحكم صار خيرا من ذلك الحكم المنسوخ فى نفعه للناس. وصح أن يقال حينئذ إن الله نسخ حكم الآية السابقة ، وأتى بخير منها فى الدلالة على عدم الحكم الذى بات فى وقت النسخ أنفع للناس وخيرا لهم من الحكم المنسوخ. ومعنى آية «ما ننسخ» لا يأبى هذا التأويل ، بل يتناوله كما يتناول سواه ، والنسخ فيها أعم من نسخ التلاوة والحكم مجتمعين ومنفردين ، ببدل وبغير بدل والخيرية والمثلية فيها أعم من الخيرية والمثلية فى الثواب وفى النفع. وقد مر بيان ذلك فيما سبق عند الكلام على أدلة النسخ عقلا.