لأن مجرد الفصاحة دون مراعاة لمقتضى الحال ، أمر لا يخرج بالكلام عن المعهود فى مقدور البشر فكثيرا ما يكون الكلام البشرى فصيحا لكن تعوزه الخصائص والنكات الزائدة التى هى مناط بلاغته فى أقل درجاته فضلا عن إعجازه.
شبهة القول بالصرفة
ومن الباحثين من طوعت له نفسه أن يذهب إلى القول بأن وجه إعجاز القرآن هو الصرفة أى صرف الله العرب عن معارضته على حين أنه لم يتجاوز فى بلاغته مستوى طاقتهم البشرية ، وضربوا لذلك مثلا فقالوا : إن الإنسان كثيرا ما يترك عملا هو من جنس أفعاله الاختيارية ومما يقع مثله فى دائرة كسبه وقدرته ، إما لأن البواعث على هذا العمل لم تتوافر ، وإما لأن الكسل أو الصدود أصابه فأقعد همته وثبط عزيمته وإما لأن حادثا مفاجئا لا قبل له به قد اعترضه فعطل آلاته ووسائله وعاق قدرته قهرا عنه ، على رغم انبعاث همته نحوه وتوجه إرادته إليه. فكذلك انصراف العرب عن معارضتهم للقرآن ، لم ينشأ من أن القرآن بلغ فى بلاغته حد الإعجاز الذى لا تسمو إليه قدرة البشر عادة ، بل لواحد من ثلاثة :
(أولها) أن بواعث هذه المعارضة ودواعيها لم تتوافر لديهم.
(ثانيها) أن صارفا إليها زهدهم فى المعارضة فلم تتعلق بها إرادتهم ولم تنبعث إليها عزائمهم ، فكسلوا وقعدوا على رغم توافر البواعث والدواعى.
(ثالثها) أن عارضا مفاجئا عطل مواهبهم البيانية ، وعاق قدرهم البلاغية ، وسلبهم أسبابهم العادية إلى المعارضة على رغم تعلق إرادتهم بها وتوجه همتهم إليها.
بهذا التوجيه أو نحوه يعزى القول بالصرفة إلى أبى إسحاق الإسفرايينى من أهل السنة والنظام من المعتزلة ، والمرتضى من الشيعة. وأنت إذا تأملت هذه الفروض الثلاثة التى التمسوها أو التمست لهم ، علمت أن عدم معارضة العرب للقرآن لم تجئ من ناحية إعجازه البلاغى فى زعمهم. بل جاءت على الفرضين الأولين من ناحية عدم اكتراث العرب بهذه