الإمعان عن نطاق الشبهات الآنفة التى دحضناها. لهذا نكتفى بما ذكرناه عما لم نذكره ، فرارا من التكرار وتجنبا لإثارة الخصام ، وحبا فى الوصول إلى الحقيقة بسلام.
طرق معرفة النسخ
لا بد فى تحقق النسخ ـ كما علمت ـ من ورود دليلين عن الشارع ، وهما متعارضان تعارضا حقيقيا ، لا سبيل إلى تلافيه بإمكان الجمع بينهما على أى وجه من وجوه التأويل. وحينئذ فلا مناص من أن نعتبر أحدهما ناسخا والآخر منسوخا ، دفعا للتناقض فى كلام الشارع الحكيم. ولكن أى الدليلين يتعين أن يكون ناسخا ، وأيهما يتعين أن يكون منسوخا؟ هذا ما لا يجوز الحكم فيه بالهوى والشهوة ، بل لا بد من دليل صحيح يقوم على أن أحدهما متأخر عن الآخر. وإذن فيكون السابق هو المنسوخ ، واللاحق هو الناسخ ولنا إلى هذا الدليل مسالك ثلاثة :
(أولها) أن يكون فى أحد النصين ما يدل على تعيين المتأخر منهما ، نحو قوله تعالى (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ). ونحو قوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ ، وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) ونحو قوله : صلىاللهعليهوسلم «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ، ولا تقولوا هجرا».
(ثانيها) أن ينعقد إجماع من الأمة فى أى عصر من عصورها على تعيين المتقدم من النصين والمتأخر منهما.
(ثالثها) أن يرد من طريق صحيحة عن أحد من الصحابة ما يفيد تعيين أحد النصين المتعارضين للسبق على الآخر أو التراخى عنه. كأن يقول : نزلت هذه الآية بعد تلك الآية