تعليق وتمثيل :
يحلو لي أن أسوق إليك هنا كلمة قيمة ، فيها تعليق وتمثيل لما نحن بصدده ، وهى لصديقنا العلامة الجليل الشيخ محمد عبد الله دراز فى كتابه (النبأ العظيم) الذى اقتبسنا منه فيما يتصل بإعجاز القرآن كثيرا.
«قلنا : إن القرآن الكريم يستثمر دائما برفق أقل ما يمكن من اللفظ ، فى توليد أكثر ما يمكن من المعانى. أجل : تلك ظاهرة بارزة فيه كله ، يستوى فيها مواضع إجماله التى يسميها الناس مقام الإيجاز ، ومواضع تفصيله التى يسمونها مقام الإطناب. ولذلك نسميه إيجازا كله ، لأننا نراه فى كلا المقامين لا يجاوز سبيل القصد ، ولا يميل إلى الإسراف ميلا ما. ونرى أن مراميه فى كلا المقامين لا يمكن تأديتها كاملة العناصر والحلى بأقل من ألفاظه ولا بما يساويها ، فليس فيه كلمة إلا هى مفتاح لفائدة جليلة ، وليس فيه حرف إلا جاء لمعنى.
دع عنك قول الذى يقول فى بعض الكلمات القرآنية : إنها «مقحمة» وفى بعض حروفه إنها «زائدة» زيادة معنوية. ودع عنك قول الذى يستخف كلمة التأكيد فيرمى بها فى كل موطن يظن فيه الزيادة ، لا يبالى أن تكون تلك الزيادة فيها معنى المزيد عليه فتصلح لتأكيده أو لا تكون ، ولا يبالى أن يكون بالموضع حاجة إلى هذا التأكيد أو لا حاجة له به. أجل : دع عنك هذا وذاك ؛ فإن الحكم فى القرآن بهذا الضرب من الزيادة أو شبهها ، إنما هو ضرب من الجهل ـ مستورا أو مكشوفا ـ بدقة الميزان الذى وضع عليه أسلوب القرآن. وخذ نفسك أنت بالغوص فى طلب أسراره البيانية على ضوء هذا المصباح ، فإن عمى عليك وجه الحكمة فى كلمة منه أو حرف ، فإياك أن تعجل كما يعجل هؤلاء الظانون ، ولكن قل قولا سديدا هو أدنى إلى الأمانة والإنصاف قل : «الله أعلم بأسرار كلامه ، ولا علم لنا إلا بتعليمه» ثم إياك أن تركن إلى راحة اليأس فتقعد عن استجلاء تلك الأسرار