(ثانيها) أن الله تعالى لم يقر رسوله على خطأ أبدا ، لأنه لو أقره عليه لكان إقرارا ضمنيا بمساواة الخطأ للصواب والحق للباطل. ما دامت الأمة مأمورة من الله باتباع الرسول فيما يقول ويفعل. ولكان فى ذلك تلبيس على الناس وتضليل لهم عن الحق الذى فرض الله عليهم اتباعه. ولكان ذلك مدعاة إلى التشكك فيما يصدر عن الرسول ، ضرورة أنه على هذا الفرض قد يجتهد ويخطئ ولا يرشده الله إلى وجه الصواب فيما أخطأ. وهذه اللوازم كلها باطلة لا محالة ، فبطل ملزومها وثبت أن الحكيم العليم لا يمكن أن يقر القدوة العظمى على خطأ أبدا ، بل لا بد أن يبين له وجه الصواب. وقد يكون مع هذا البيان لون من ألوان العتاب لطيفا أو عنيفا ، توجيها له وتكميلا ، لا عقوبة وتنكيلا.
(ثالثها) أن الرسول كان يرجع إلى الصواب الذى أرشده إليه مولاه دون أن يبدى غضاضة ، ودون أن يكتم شيئا مما أوحى إليه من تسجيل الأخطاء عليه ، وتوجيه العتاب إليه ، وفى ذلك ـ لا ريب ـ أنصع دليل على عصمته وأمانته ، وعلى صدقه فى كل ما يبلغ عن ربه ، وعلى أن القرآن ليس من تأليفه ووضعه ، ولكنه تنزيل العزيز الرحيم.
آيات العتاب نوعان :
أما بعد فإن العتاب الموجه للرسول فى القرآن على نوعين نوع لطيف لين ونوع عنيف خشن. ولنمثل لهما بأمثلة ثلاثة :
(المثال الأول) قوله تعالى فى سورة التوبة : (عَفَا اللهُ عَنْكَ. لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) وذلك أنه عليهالسلام كان قد أذن لبعض المنافقين فى التخلف عن غزوة تبوك حين جاءوا يستأذنون ويعتذرون ، فقبل منهم تلك الأعذار. أخذا بظواهرهم ، ودفعا لأن يقال إنه لا يقبل العذر من أصحاب الأعذار ، ولكن الله تعالى عاتبه كما ترى ، وأمره بكمال التثبت والتحرى ، وألا ينخدع بتلك الظواهر ، فإن من ورائها أسفل المقاصد والله أعلم بما يبيتون ولعله لم يخف عليك لطف هذا العتاب بتصدير العفو فيه خطابا للرسول من رب الأرباب!.