لا يطمع فى نبوة ولا يأمل فى وحى (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ). وكذلك لم يكن بعد نبوته بالذى يضمن بقاء هذا الوحى وحفظه ؛ (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً* إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً).
فلا مناص إذن من أن تكون تلك البشارات المؤكدة والعهود الموثقة ، صادرة من أفق غير أفقه ، آنية من ملك قاهر لا راد لحكمه ، معبرة عن مراد من يملك العالم ويحكمه فى ماضيه وحاضره ومستقبله! ومما يؤيد صدق هذه التنبؤات ، أن الإسلام لقى من ضروب العنت مرارا وتكررا ، فى أزمان متطاولة وعهود مختلفة ، ما كان بعضه كافيا فى محوه وزواله ، ولكنه على رغم أنف هذه الأعاصير العاتية بقى ثابتا يسامى الجبال ، شامخا يطاول السماء. وكذلك لقى كتابه العزيز ولا يزال يلقى من الهمز واللمز والطعن والسباب والمحاولات القاتلة ، ما لا يتصوره إنسان فى أى زمان ، وما لم يلق كتاب قبله من الكيد والتضليل والبهتان ، ومع ذلك كله فالقرآن هو القرآن ، لا يزال جالسا على عرشه فى سمائه ، يمد العالم كله بحرارته وضيائه ، ولم. تنل منه هذه المحاولات إلا كما ينال نباح الكلاب من عاليات السحاب.
(المثال الخامس) تنبأ القرآن بأن المستقبل السعيد ينتظر المسلمين فى وقت لم تكن عوامل هذا المستقبل السعيد مواتية ، ثم إذا تأويل هذا النبأ يأتى على نحو ما أخبر القرآن ، فى أقصر ما يكون من الزمان! أجل ، إننا لنقرأ فى سورة الصافات المكية : (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) وفى سورة غافر المكية أيضا (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) وكذلك نقرأ فى سورة النور المدنية : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) على حين أن سجلات التاريخ لا تزال تحفظ بين طياتها ما يشيب الوليد من ألوان الاضطهاد والأذى الذى أصاب الرسول وأتباعه