إلا بأنه استمداد من وحى السماء ، واستناد إلى من يملك السمع والأبصار ، وحديث عمن بيده ملكوت كل شىء وهو يجير ولا يجار عليه؟!
(المثال الرابع) ما جاء من التنبؤ بمستقبل الإسلام ونجاحه نجاحا باهرا ، فقد أخبر القرآن والمسلمون فى مكة قليل مستضعفون فى الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس ـ بأن الإسلام سيظهر ويبقى ، وأن كتابه سيكتب له الحفظ والخلود منفردا بهذه الميزة عن سائر كتب الله. اقرأ إن شئت قوله تعالى فى سورة الرعد (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً. وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) ، وفى سورة إبراهيم : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) وفى سورة الحجر : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).
أجل فى هذه السور الثلاث المكية ، قطع القرآن هذه العهود المؤكدة بتلك اللغة الواثقة ، والإسلام يومئذ فى مكة مدفوع مضطهد ، والمسلمون قليل مستضعفون فى الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس ، وليس هناك من بواسم الآمال ما يلقى ضوءا على نجاح هذا الدين الوليد ، ولئن التمست هذه الآمال فى نفس الداعى من طبيعة دعوته ، فما كانت لتصل إلى هذا الحد من اليقين والتأكيد. ولئن وصلت إلى هذا الحد ما دام صاحبها حيا يتعهدها بنفسه ويغذيها بنشاطه ، فليس لديه من العوامل ما يجعله يثق بهذا النجاح بعد موته ، مع ما هو معروف بأن المستقبل ملىء بشتيت المفاجآت ، والليالى من الزمان حبالى مثقلات ، والتاريخ لا يزال يقص علينا وعلى الناس نبأ من قتل من الأنبياء ، وما ضاع أو حرف من كتب الله ووحى السماء وما حبط من دعوات الحق ونهض من دعوات الباطل ... كل ذلك قد كان ومحمد صلىاللهعليهوسلم لم يكن فى يوم من الأيام بالرجل الأخرق الذى يسير مع الأوهام ، أو يطير مع الخيال ، أو يطلب المجد عن طريق الأحلام المكذوبة والآمال المعسولة. بل كان معروفا منذ نشأته ، بتواضعه ورجاحة عقله واتزانه ودقته ، حتى لقد كان يتثبت فى كلامه ويتحرى إلى أن لقب واشتهر بأنه الصادق الأمين ، وجاء القرآن نفسه يشهد بأنه صلىاللهعليهوسلم كان قبل نبوته