حتى لقد جعل يركض بغلته إلى جهة العدو ، والعباس بن عبد المطلب آخذ بلجامها يكفها إرادة ألا تسرع. فأقبل المشركون إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فلما غشوه لم يفر ولم ينكص ، بل نزل عن بغلته كأنما يمكنهم من نفسه وجعل يقول : أنا النبى لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب كأنما يتحداهم ويدلهم على مكانه. فو الله ما نالوا منه نيلا ، بل أيده الله بجنده ، وكف أيديهم عنه بيده رواه الشيخان.
(المثال الثالث) ما جاء فى معرض التحدى بالقرآن ، من قوله سبحانه : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا). وقوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) فإن ما تراه فى هاتين الآيتين من القطع بانتفاء قدرة المخاطبين وجميع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، قد تناول أطواء المستقبل (والمستقبل غيب) لا يملكه محمد ولا مخلوق غيره ومع ذلك فقد تحققت نبوءة القرآن ولا تزال متحققة ، حيث انقرضت طبقة المخاطبين به دون أن يستطيعوا معارضة أقصر سورة منه ، ومضت بعدهم أجيال وأجيال من عرب وأعجام ، وكلهم قد باءوا بالعجز ولم يستطيعوا المعارضة إلى اليوم ، مع وجود أعداء للإسلام فى هذه العصور المتأخرة ، أكثر وأقدر وأحرص على هدم بناء هذا الدين من أولئك الأعداء الأولين.
لاحظ مع هذا ما يثيره مثل هذا التحدى الطويل العريض الجرىء ، من الحمية الأدبية التى تبعث روح المنافسة على أشدها فى نفوس من يتحداهم. ثم لاحظ أن المتأخرين من الناقدين لا يعييهم فى العادة أن يستدركوا على السابقين ، إما نقصا يعالجونه بالكمال ، أو كمالا يعالجونه بما هو أكمل منه. وإذا فرضنا أن واحدا قد عجز عن هذا فمن البعيد أن تعجز عنه جماعة. وإذا عجزت جماعة فمن البعيد أن تعجز أمة. وإذا عجزت أمة فمن البعيد أن يعجز جيل. وإذا عجز جيل فمن البعيد أن تعجز أجيال فكيف يصدر إذن مثل هذا التحدى عن رجل يعرف ما يقول ، فضلا عن رجل عظيم ، فضلا عن رسول كريم ، فضلا عن محمد أفضل المرسلين؟!. وهل يمكن أن يفسر هذا التحدى الجرىء الطويل العريض