والاستغراق ، غير أن الذي يصح ذلك فيه إنما هو اسم الجمع المعرف بالألف واللام ، إذا لم تكن اللام فيه لتعريف العهد دون قوله : رأيت رجالا ، فمعلوم أنه لا يصح فيه الاستثناء ، فلا يقول القائل : رأيت رجالا إلا زيدا ، لما لم يجب أن يكون قوله رجالا شاملا له لا محالة ، اللهم إلا إذا أراد استئناف العقبة ، فيكون استثناؤه من تقدير ، لكن لا يكون حينئذ استثناء حقيقيا.
دليل آخر ، وأحد ما يدل على أن في اللغة لفظة موضوعة للعموم والاستغراق ، هو أن «من» إذا وقعت نكرة في الاستفهام أفادت العموم ، ولهذا نص أهل اللغة على أن قول القائل من عندك بمنزلة قولهم : أزيد عندك ، أبكر ، أخالد ، حتى يأتي على جميع العقلاء ، فلو لا كونه موضوعا للعموم والاستغراق ، وإلا كان لا يقوم هذا المقام على ما ذكرناه. فصح قول أبي هاشم ، إن أهل العربية لما استطاعوا الاستفهام باسم الجمع ، أقاموا قولهم من عندك مقامه حتى لا يحتاجوا إلى تعداد الأسماء.
فهذا وجه يدلك على أن «من» إذا وقعت نكرة في الاستفهام أفادت العموم والاستغراق.
ويدل على ذلك أيضا ، أن للمجيب أن يجيب بذكر جماعة العقلاء ، كما أن له أن يجيب بذكر آحادهم ، فلو لا أن السؤال مشتملا عليهم بأجمعهم ، ومتناولا لهم كلهم ، وإلا كان لا يكون الجواب مطابقا للسؤال إلا إذا أجاب بذكر الجماعة ، ويجري ذلك مجرى أن يجيب بالحمار والفرس في أنه لا يصح ، لما لم يكن السؤال متناولا له ، وفي علمنا بخلافه دليل على صحة ما قلناه.
فإن قيل : هذا الذي ذكرتموه دليل لنا ، ولو لا أن هذه اللفظة من الألفاظ المشتركة التي يحتمل أن يراد بها الخصوص كما يحتمل أن يراد بها العموم ، وإلا لم يكن للمجيب أن يجيب إلا بذكر الجماعة ، فلما كان له أن يجيب بذكر الجماعة مرة وبذكر فريق دون فريق أخرى ، دل ذلك على أنه محتمل للخصوص احتماله للعموم. قالوا : ومما يؤكد هذه الجملة ، أن قول القائل : أكل الناس عندك؟ لما كان مستغرقا عاما ، لم يجز أن يذكر في جوابه الآحاد ، بل وجب أن يجاب إما بذكر الكل أو بنفي الكل ، كذا كان يجب مثله في هذا المكان.
قيل له : إنا لم نستدل إلا بالسؤال ، وقلنا : لو لا شموله للكل ، واشتماله على الجميع ، وإلا كان لا يصح أن يجيب مرة بذكر الآحاد ومرة بذكر الجماعة ، كما أنه