وتفصيل هذه الجملة ، هو أن أوامر الله تعالى تنقسم إلى ما يكون أمرا على الإطلاق ، وإلى ما يكون أمرا بشرط. فالمأمور بالشيء على الإطلاق يلزمه ذلك الفعل في الحال ؛ فأما المأمور به بشرط فإن ذلك الفعل إنما يلزمه إذا حصل ذلك الشرط ، والشرط في مثلنا أن يوجد ويحصل على صفة المكلفين.
فعلى هذا نقول : إن الموجودين في زمن الرسول كانوا مكلفين بهذه العبارات في الحال ، حتى كان يلزمهم التكفل بحفظه إلى أن يؤدوه إلى من بعدهم ، ثم كذلك في كل عصر ، وأما الذين لم يوجدوا في الحال فلا تكليف عليهم بشيء من ذلك إلا إذا أوجدوا وصاروا بصفة المكلفين.
والغرض بقولنا : إن الخطاب متناول لهم والتكليف يجمعهم والموجودين في الحال جميعا ، أنه ليس يجب تكرار الخطاب بهذه العبارات من جهة الله تعالى ولا من رسله في سائر الأعصار وحالا بعد حال ، بل الخطاب الأول كاف ، ويكون السامعون له في الحال يلزمهم أداؤه إلى من بعدهم ، وإذا كان هذا هو الغرض ، لم يصح ما ظنوه من أنا جعلنا العاجز والضعيف والمعدوم مكلفا بالفعل وهو عاجز ضعيف معدوم ، بل إنما يكونون مكلفين إذا وجدوا واستكملوا شرائط التكليف ، ولا شبهة في حسن التكليف على هذا الحد. ألا ترى أنه يحسن من أحدنا أن يكلف غلامه الصعود إلى السطح غدا وإن لم يمكنه في الحال بإعطاء ما يحتاج إليه من السلم وغيره ، وإنما يقبح تكليفه الصعود مع عدم التمكين وإعطاء السلم وغيره ، لو كلفه به في الحال على ما يقوله القوم في الكافر ، ففارق حال هؤلاء حال الكافر ، فإن عندهم أنه مكلف في الحال بالإيمان وتحصيله ، مع أنه لا قدرة له عليه ولا له طاقة به ، بل لا يمكنه الانفكاك عن ضده الذي هو الكفر ، فأشبه تكليفه تكليف الزمن بالمشي على الزمانة ، وتكليف الأعمى بنقط الصحف على جهة الصواب على العمى.
ثم إنه رحمهالله أجاب عن السؤال الثاني ، فقال : إن الآلات تنقسم إلى ما يجب تقدمها كالقوس وما يجري مجراها ، وإلى ما يجب مقارنتها كصلابة الأرض وغيرها ، وإلى ما يجب فيه كلا الأمرين كاللسان في الكلام والسكين في الذبح وما شاكل ذلك ، وكما أن هذه الآلات تنقسم هذه القسمة ، فكذلك المعاني التي يحتاج الفعل في الوقوع إليها تنقسم إلى ما يجب فيها التقدم ، وإلى ما يجب فيها المقارنة ، وإلى ما يجب فيه كلا الأمرين.
إذا ثبت هذا ، وثبت احتياج الفعل إلى القدرة ، وجب أن تلحق القدرة بما هو