يستحسن بكمال عقله التفرقة بين المحسن والمسيء. وإنما تفرق بينهما الحسنة ، وإلا فلا نفع في ذلك ولا دفع ضرر.
وقد اعترض عليه فقيل : إن هذه تفرقة ضرورية ، فكيف أضفته إلينا؟.
وأجاب عن ذلك : بأن التفرقة إنما تكون ضرورية متى عرف المحسن والمسيء ضرورة ، فأما إذا لم نعرفهما فغير ممتنع أن نعزم ونوطن أنفسنا على التفرقة بينهما.
وهذا أيضا غير واضح ، فإن التفرقة بين المحسن والمسيء على الجملة ضرورية ، والعزم وتوطيد النفس على معنى الخير محال ، فإذن لا تستقيم هذه الدلالة إلا أن نعرض الكلام في التفرقة بينهما على سبيل التفصيل ، فحينئذ ربما يسلم ويستقيم.
وقد أورد قاضي القضاة في الكتاب هذا السؤال على نفسه وأجاب عنه ببعض ما مر ، وألحق به ما لم يمر.
فمن ذلك ، هو أن قال : إن الواحد منا إنما لا يختار الحسن إلا لجر منفعة أو دفع مضرة ، لأنه يلحقه بذلك مشقة ، فلا جرم لا يختاره إلا إذا استجر به نفعا أو دفع به ضررا ، والقديم تعالى يستحيل عليه المشقة ، فجاز أن يختار الحسن لحسنه وكونه إحسانا على ما نقوله ، وكل ما يفعله الله تعالى إنما يفعله لحسنه وكونه إحسانا إلا العقاب ، فإنه إنما يفعله لحسنه فقط. ومن هاهنا أشبه العقاب في أفعال الله تعالى المباح وإن لم يسم بذلك ، لأنه تعالى لم يعرف حاله ولا دل عليه ، وإنما يوصف العقل بأنه مباح متى كان هذا سبيله.
فإن قيل : قولكم إنه تعالى لا يختار القبيح لعلمه بقبحه وبغناه عنه ينبني على أنه يقبح من الله تعالى فعل من الأفعال ، ونحن لا نساعدكم على ذلك.
قيل له : إن القبيح إنما يقبح لوقوعه على وجه ، فمتى وقع على ذلك الوجه وجب قبحه سواء وقع من الله تعالى ، أو من الواحد منا. وهذه مسألة كبيرة اختلف الناس فيها.
فعندنا أن القبيح إنما يقبح لوقوعه على وجه نحو كونه ظما ، وعند أبي قاسم البلخي أن القبيح إنما يقبح لوقوعه بصفته وعينه ، وإلى هذا ذهب بعض المجبرة ، وعند بعضهم أن القبيح إنما يقبح للرأي ، أو لكوننا مملوكين مربوبين محدثين إلى أمثال هذا ، والحسن إنما يحسن للأمر.