وبعد ، فإنا لا نتكلم في هذه المسألة مع من ينازع في أصل تلك المسألة ، لأن هذه المسألة من فروعات تلك المسألة ، لا يحسن أن نتكلم في فرع من الفروع ولما نقرر أصله ، كما لا يحسن أن نكالم اليهود في المسح على الخفين ، ولا المجسمة في نفي الرؤية ولما نثبت أنه تعالى ليس بجسم ولما نثبت نبوة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وبعد ، فلا خلاف بيننا وبينكم في أن هذه التصرفات محتاجة إلينا ومتعلقة بنا ، وأنّا مختارون فيها. وإنما الخلاف في وجهة التعلق أكسب أو حدوث؟ فعندنا أن جهة التعلق إنما هو الحدوث ، وعندكم أن جهة التعلق إنما هو الكسب فلا حاجة للمنازعة.
وبعد ، فلو كان الأمر على ما ذكرتموه ، لوجب صحة أن يخلق الله تعالى في أحدنا وهو عالم بقبح القبيح ـ مستغن عنه عالم باستغنائه عنه ـ ذلك ، حتى يقع منه الكذب دون الصدق في الصورة التي ذكرناها ، والمعلوم خلافه.
فإن قيل : هذه الدلالة تبنى على أن أحدنا غني ، ونحن لا نسلم ذلك ، فكيف يكون غنيا وهو أبدا في أشد الحاجة.
قلنا : إنا لم نبن الدلالة على أن أحدنا غني على الإطلاق ، وإنما قلنا : متى استغنى بالحسن عن القبيح ، لا يختار القبيح أصلا ، وإذا وجب ذلك فيه مع أنه ليس بغني على الإطلاق ، وإنما استغناؤه بشيء عن شيء ، فالقديم تعالى وهو أغنى الأغنياء أولى بذلك وأحق.
فإن قيل : كيف عللتم الحكم الواحد بعلل كثيرة ، ولو جاز ذلك هاهنا لجاز في الحركة مع المتحرك ، والشهوة على المشتهي؟.
وجوابنا ، أن ذلك إنما لا يجوز إذا كانت العلة موجبة ، فأما إذا كانت كاشفة فإنه يجوز. ولهذا فإنا عللنا الظلم بكونه ضررا لا نفع فيه ولا دفع ضرر ولا استحقاق ولا الظن لأحد الوجهين المتقدمين.
فإن قالوا : قولكم ، أن الواحد منا لو خير بين الصدق والكذب وكان النفع في أحدهما كالنفع في الآخر فإنه لا يختار الكذب على الصدق لأنه يستغنى بالصدق عن الكذب ، ليس بأولى من أن يعكس عليكم فيقال : بل يستغنى بالكذب عن الصدق ، قيل له : لو كان ذلك كذلك ، لكان يجب أن يختار أحدنا الكذب على الصدق في بعض الحالات مع وجود هذه الشرائع ، ومعلوم خلاف ذلك.