يبين ذلك ويوضحه ، أنه لو كان الميزان إنما هو العدل ، لكان لا يثبت للثقل والخفة فيه معنى ، فدل على أن المراد به الميزان المعروف الذي يشتمل على ما تشمل عليه الموازين فيما بيننا.
فإن قالوا : وأي فائدة في وضع الموازين التي أثبتموها ، ومعلوم أنه إنما يوضع ليوزن به الشيء ، ولا شيء هناك يخذله الوزن ويتأتى فيه ، فإن أعمال العباد طاعاتهم ومعاصيهم أعراض لا يتصور فيها الوزن.
قيل له : ليس يمتنع أن يجعل الله تعالى النور علما للطاعة والظلم أمارة للمعصية ، ثم يجعل النور في إحدى الكفتين والظلم في الكفة الأخرى ، فإن ترجحت كفة النور حكم لصاحبه بالثواب ، وإن ترجحت الأخرى حكم له بالأخرى ، وكما لا يمتنع ذلك فكذلك لا يمتنع أن يجعل الطاعات في الصحائف ثم توضع صحائف الطاعات في كفة وصحائف المعاصي في كفة ، فأيهما ترجحت حكم لصاحبه به ، هذا هو كيفية ذلك.
فائدة عذاب القبر :
وأما فائدته ، فهو تعجيل مسرة المؤمن وغم الكافر ، هذا في القيامة.
وفيه فائدة أخرى تتعلق بالتكليف ، وهي أن المرء مع علمه أن أعماله توزن على الملأ كان عند ذلك أقرب إلى أداء الواجبات واجتناب المقبحات ، وهذه فائدة عظيمة.
وأما الحساب فمما لا يجوز إنكاره فقد قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) غير أن محاسبة الله تعالى إيانا لا تجري على حد ما تجري المحاسبة بين الشريكين والمتعاملين فإن ذلك فيما بيننا إنما يكون بعقد الأصابع أو ما يجري مجراه ، وليس هكذا محاسبة الله تعالى عبارة ، فإن ذلك يكون بخلق العلم الضروري في قلبه أنه يستحق من الثواب كذا ومن العقوبة كذا ، فيسقط الأقل بالأكثر ، وعلى هذا صح ذلك بسرعة على ما دل عليه قوله تعالى : (اللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) ومن هاهنا استدل بعض مشايخنا بهذه الآية على أنه تعالى لا يجوز أن يكون جسما ، وإلا كان لا يتأتى منه محاسبة الخلائق بسرعة ولا يمكنه خلق العلم فيهم ، فكان يتعثر عليه ولا يمكنه إلا بمدة مديدة وزمان طويل ، وفي علمنا بأنه تعالى سريع الحساب دليل على أنه تعالى ليس من قبيل هذه الأجسام ، والفائدة في المحاسبة نحو الفائدة ووضع الموازين.