سماع كلام الله وكلام نبيه الصادق ، وزعموا أن النسخ ضرب من البداء أو مستلزم للبداء! وهكذا اشتبهوا أو شبهوا على الناس الأمر ، وقالوا : لو لا ظهور مصلحة لله ، ونشوء رأى جديد له ، ما نسخ أحكامه ، وبدل تعاليمه. ونسوا أو تناسوا أن الله تعالى حين نسخ بعض أحكامه ببعض ، ما ظهر له أمر كان خافيا عليه ، وما نشأ له رأى جديد كان يفقده من قبل ، إنما كان سبحانه يعلم الناسخ والمنسوخ أزلا من قبل أن يشرعهما لعباده ، بل من قبل أن يخلق الخلق ، ويبرأ السماء والأرض. إلا أنه ـ جلت حكمته ـ علم أن الحكم الأول المنسوخ منوط بحكمة ، أو مصلحة تنتهى فى وقت معلوم ، وعلم بجانب هذا أن الناسخ يجيء فى هذا الميقات المعلوم منوطا بحكمة وبمصلحة أخرى. ولا ريب أن الحكم والمصالح تختلف باختلاف الناس ، وتتجدد بتحدد ظروفهم وأحوالهم ، وأن الأحكام وحكمها ، والعباد ومصالحهم ، والنواسخ والمنسوخات ، كانت كلها معلومة لله من قبل ، ظاهرة لديه لم يخف شىء منها عليه. والجديد فى النسخ إنما هو إظهاره تعالى ما علم لعباده ، لا ظهور ذلك له ، على حد التعبير المعروف : (شئون يبديها ولا يبتديها). (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا).
اجتمعت اليهود والرافضة على هذه الضلالة ، ضلالة استلزم النسخ للبداء ، لكنهم افترقوا بعد ذلك إلى ناحيتين خطيرتين. فاليهود أنكروا النسخ وأسرفوا فى الإنكار ، لاستلزامه فى زعمهم البداء وهو محال. وسنناقشهم الحساب فيما بعد إن شاء الله. أما الرافضة فأثبتوا النسخ ثم أسرفوا فى إثبات هذا البداء اللازم له فى زعمهم ، ونسبوه إلى الله فى صراحة ووقاحة (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً). ولقد رأيت كيف أبطلنا مزاعمهم بأدلة عقلية ونقلية؟ ورأيت كيف فندنا شبهتهم التى زعموها دليلا وما هى بدليل؟ إن هى إلا خلط فى أوهام ومشى فى غير سبيل. وشتان شتان بين النسخ القائم على الحكمة ورعاية المصلحة ، وبين البداء المستلزم لسبق الجهل وطرو العلم!.
بقى أنهم تمسحوا فى أمرين : (أولهما) قوله سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ