بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ). أى نشأ لهم فى يوسف رأى جديد ، هو أن يسجن سجنا وقتيا ، بدليل قوله : (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ). ولعل هذا المعنى الثانى هو الأنسب والأوفق بمذهب القائلين به ـ قبحهم الله ـ. ولأن عباراتهم المأثورة عنهم جرت هذا المجرى فى الاستعمال دون الاستعمال الأول. كتلك الكلمة التى نسبوها كذبا إلى جعفر الصادق رضى الله عنه : ما بدا لله تعالى فى شىء كما بدا له فى إسماعيل.
ذانك معنيان متقاربان للبداء ، وكلاهما مستحيل على الله تعالى ، لما يلزمهما من سبق الجهل وحدوث العلم ، والجهل والحدوث عليه محالان ؛ لأن النظر الصحيح فى هذا العالم ، دلنا على أن خالقه ومدبره ، متصف أزلا وأبدا بالعلم الواسع المطلق المحيط بكل ما كان وما سيكون وما هو كائن ، كما هدانا هذا النظر الصحيح إلى أنه تعالى لا يمكن أن يكون حادثا ولا محلا للحوادث. وإلا لكان ناقصا يعجز عن أن يبدع هذا الكون ويدبره هذا التدبير المعجز!. ذلك أجمل لدليل العقل.
أما أدلة النقل فنصوص فياضة ناطقة بأنه تعالى أحاط بكل شىء علما ، وأنه لا تخفى عليه خافية (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها ، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ، وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ، وَما تَزْدادُ* وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ* عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ* سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ). إلى غير ذلك من مئات الآيات والأحاديث.
ولكن على رغم أنف هذه البراهين الساطعة من عقلية ونقلية ، ضل أقوام سفهوا أنفسهم ، فأغمضوا عيونهم عن النظر فى كتاب الكون الناطق ، وصموا آذانهم عن