لأمرين : أحدهما أنه كان بين المشركين فى جزيرة العرب يهود وأهل كتاب يخالفونهم فى الدين ، فما أرّث ذلك بينهم حربا ولا أوقد لخصومتهم نارا ، على مثل ما كان بينهم وبين محمد. والآخر أنه كان يوجد بين العرب حنفاء من مقاويل الخطباء وفحول الشعراء ، كأمية بن أبى الصلت وقس بن ساعدة ، فما كان هذا ليثير حفائظهم ولا ليقفهم موقف الخصومة منهم. بل رضوا بتحنفهم ومخالفتهم لدينهم ودين آبائهم ، وزادوا على ذلك أن سجلوا كلامهم فى التوحيد وشعرهم فى التنزيه والتمجيد ، لأنهم لم يجدوا فى هذا المنظوم والمنثور مثل ما وجدوا فى القرآن من شدة التأثير وقوة الدفع. ذلك الكتاب الذى جاءهم من فوقهم ، وكان له شأن غير شأنهم ورأوا فيه من مسحة الألوهية ما جعله روحا من أمر الله يتحرك به كل من سمع صوته ، ويهتز له كل من شام برقه ، ولا سبيل إلى وقف تياره وأثره ، إلا بالوقوف فى وجهه والحيلولة بين الناس وبينه. روى أبو داود والترمذى أن الرسول صلىاللهعليهوسلم قال : «ألا رجل يحملنى إلى قومه فإن قريشا منعونى أن أبلغ كلام ربى» فتأمل كلمة «أن أبلغ كلام ربى» ولم يقل : منعونى أن أتلو أو أعمل فى نفسى بكلام ربى ، لأن التلاوة والعمل من غير استعلان بالقرآن ونشر له ، كان لا يؤثر على قريش كثيرا إنما الذى كان يحز فى نفوسهم ويقض من مضاجعهم ، هو نشر هذا النور الذى يكاد يخطف الأبصار ، وإعلان هذا الكتاب الذى يجذب القلوب والأفكار. وكان من تأثيره وفتحه وغزوه للنفوس ما ألمعنا إليه فى إسلام عمر وسعد وأسيد!.
(وأما الفرض الثالث) فينقضه ما هو معروف من أن العرب حين خوطبوا بالقرآن قعدوا عن معارضته ، اقتناعا بإعجازه وعجزهم الفطرى عن مساجلته. ولو أن عجزهم هذا كان لطارئ مباغت عطل قواهم البيانية ، لأثر عنهم أنهم حاولوا المعارضة بمقتضى تلك الدوافع القوية التى شرحناها ففوجئوا بما ليس فى حسبانهم ؛ ولكان ذلك مثار عجب لهم. ولأعلنوا ذلك فى الناس ليلتمسوا العذر لأنفسهم وليقللوا من شأن القرآن فى ذاته ، ولعمدوا إلى كلامهم القديم فعقدوا مقارنة بينه وبين القرآن يغضون بها من مقام القرآن وإعجازه ، ولكانوا بعد