دع عنك الأسلوبين ولكن تأمل النفسيتين المتميزتين فى الكلامين ، تميز السيد من المسود ، والعابد من المعبود!
(ثالثها) ما ورد من أن النبى صلىاللهعليهوسلم سئل عن أصحاب الكهف وعن ذى القرنين وعن الروح. فقال لسائليه : «ائتونى غدا أخبركم»
ولم يقل : إن شاء الله فأبطأ عليه الوحى حتى شق ذلك عليه وكذبته قريش وقالوا : ودعه ربه وقلاه أى تركه ربه وأبغضه ، فأنزل الله : (وَالضُّحى * وَاللَّيْلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) ثم نهاه مولاه أن يترك المشيئة مرة أخرى! إذ قال له فى سورة الكهف : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ. وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً). ولما نزل جبريل بعد هذا الإبطاء والتمهل قال له ما حكاه الله عنه فى سورة مريم : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ. لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ. وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا). يعنى أن عدم الإسراع بالنزول لم يكن سببه إعراض الله عنه كما يزعمون. بل كان لعدم الإذن به لحكم بالغة ، قد عرضنا لبعضها فى الكلام على أسرار تنجيم القرآن بالجزء الأول وحسبك هنا أن يستدل المنصف بهذا الإبطاء والتراخى على أن القرآن تنزيل العزيز الرحيم لا كلام النبى الكريم.
(رابعها) ما ورد من أنه لما نزل قوله سبحانه : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) انخلعت قلوب الصحابة وذعروا ذعرا شديدا ؛ لأنهم فهموا من هذه الآية أن الله تعالى سيحاسبهم على كل ما يجول بخاطرهم ولو كانت خواطر رديئة ، ثم سألوا فقالوا : يا رسول الله ، أنزلت علينا هذه الآية ولا نطيقها ، فقال لهم النبى صلىاللهعليهوسلم «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ؛ بل قولوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا وإليك المصير» فجعلوا يقولونها ويضرعون إلى الله بها حتى أنزل ـ تقدست أسماؤه ـ الآية الأخيرة من سورة البقرة وهى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إلى آخر السورة. فسكنت نفوسهم واطمأنت قلوبهم ، وفهموا أنهم لا يحاسبون إلا على ما يقع تحت اختيارهم