(المثال الثانى) قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ* فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً. وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وذلك أنه وقع فى أسر المسلمين يوم بدر سبعون من أشراف قريش. فاستشار الرسول أصحابه فيهم. فمنهم من اشتد وأبى عليهم إلا السيف. ومنهم من رق لحالهم وأشار بقبول الفداء منهم. وكان صلىاللهعليهوسلم مطبوعا على الرحمة ، ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ، فرجح بمقتضى طبعه الكريم ورحمته الواسعة رأى من أشار بقبول الفداء عسى أن يسلموا أو يخرج الله من أصلابهم من يعبده ويمجده ، ولينتفع المسلمون بمال الفدية فى شئونهم الخاصة والعامة. ولكن ما لبث حتى نزلت الآيات الكريمة المذكورة. وفيها تسجيل لخطأ ذلك الاجتهاد المحمدى. فلو كان القرآن كلامه صلىاللهعليهوسلم ما سجل على نفسه ذلك الخطأ!.
أمر آخر : فى هذه الآيات ظاهرة عجيبة ، هى الجمع بين متقابلات لا تجتمع فى نفس بشر على هذا الوجه ، فصدرها استنكار للفعل (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ). وعقب هذا الاستنكار عتاب قاس مر وتخويف من العذاب (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وفى أثر هذا الاستنكار والعتاب والتخويف إذن بالأكل ، ووصف له بالطيب والحل ، وبشارة بالمغفرة والرحمة لمن أكل (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً. وَاتَّقُوا اللهَ. إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ومثلك يعلم أن نظم هذه المتقابلات فى سلك واحد بهذه الصورة لآمر واحد ومأمور واحد ، لا يمكن أن يصدر من نفس بشرية هكذا من غير فاضل بين الإنكار والإذن ، ولا بين المدح والذم. ولا بين الوعيد والوعد لأن من طبيعة البشر أن يشغلهم شأن عن شأن ، ولا يجتمع لهم فى أمر واحد ووقت واحد خاطران متقابلان ، ولا حالان متنافيتان. كالغضب والرضا والاستهجان
(١٩ ـ مناهل العرفان ٢)