والاستحسان. بل إذا تواردا على النفس فإنما يردان متعاقبين فى زمنين. وإذا تعاقبا فاللاحق منهما يمحو السابق. وإذا محاه لم يبق معنى لإثباته وتسجيله ، بل من الطبعى تركه والإضراب عنه ، خصوصا إذا كان هذا الخاطر الأول إعلانا لتخطئة المتكلم ونقده ولومه ، كقبول الفداء فى هذا المقام وأكله.
فلا جرم أن هذه الظاهرة تأبى هى الأخرى إلا أن تكون دليل إعجاز ، وبرهان صدق على أن هنا نفسيتين مختلفتين : نفسية لا يشغلها شأن عن شأن ، ولا تتأثر ببواعث الغضب والرضا كما يتأثر الإنسان. ونفسية أخرى نسبتها إلى الأخرى نسبة المأمور من آمره ، والمسود من سيده ، لكن مع الحب والقرب. فهذه الآيات الكريمة ليست إلا كلام سيد عزيز يقول لعبده الحبيب : أخطأت فيما مضى وما كان لك أن تفعل ، ولكنى عفوت وغفرت وأذنت لك بمثله فى المستقبل!.
(المثال الثالث) قوله عزوجل : (عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى * وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى* وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى* وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى * وَهُوَ يَخْشى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى* كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) وذلك أن النبى صلىاللهعليهوسلم كان مشتغلا ذات يوم بدعوة أشراف من قريش إلى الإسلام ، وإذا عبد الله بن أم مكتوم يجيء ويسأل الرسول عليه الصلاة والسلام. وكان عبد الله رجلا أعمى تشرف بهداية الإسلام من قبل ، ولم يقدر تشاغله صلىاللهعليهوسلم بدعاية هؤلاء الصناديد الذين كان النبى صلىاللهعليهوسلم حريصا على هدايتهم كل الحرص ، وكان يستميلهم ويتألفهم إليه طمعا فى أن يسلموا ، فلا يلبث جماهير العرب أن تقتدى بهم فى إسلامهم. وفى أى شىء جاء هذا الصحابى يسأل؟ إنه مسلم ، فطبيعى أنه لم يسأله عن الإسلام بل جاء يستزيده من الهداية والعلم ويقول : «يا رسول الله علمنى مما علمك الله».
وجد الرسول نفسه بين قوم غلاظ مشركين يدعوهم إلى الإسلام ، ورجل وديع مسلم يستزيده من العلم فآثر الإقبال على أولئك الصناديد. وعبس فى وجه ابن أم مكتوم هذا وأعرض عنه ، لا احتقارا له وغضا من شأنه ، ولكن حرصا على هداية هؤلاء وخوفا