وهكذا كثيرا ما نسمع فى القرآن أمثال قوله سبحانه (أَفَلا يَسْمَعُونَ) ـ (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) ـ (أَنَّى يُؤْفَكُونَ ـ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ـ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى غير ذلك مما يرفع كرامة الإنسان ، ويحاكم أهم الأمور حتى العقيدة فى الله تعالى إلى العقول ، ليصل المرء من وراء ذلك إلى اقتناع الضمير واطمئنان القلب وبرد اليقين وحرارة الإيمان!.
(سادسها) استغلاله الغرائز النفسية استغلالا صالحا بعد أن يهذبها بالدليل ويصقلها بالبرهان. هذه غريزة التقليد والمحاكاة فى الإنسان مثلا قد نأى بها القرآن عن احتذاء الأمثلة السيئة من الجهلة والفسقة ، وذهب بها إلى مقام أمين من وجوب اتباع الأمثلة الطيبة والتأسى بمن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً). (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) ، (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) ، (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ).
وهذه غريزة حب البقاء والعلو فى الإنسان ، قد نأى بها القرآن أيضا عن الظلم والبغى ، وذهب بها إلى حيث الدفاع عن النفس والعرض والدين والوطن ، وقاد بها عباد الله إلى الحق والخير ، إذ وعدهم حياة ثانية فيها الخلود والبقاء ، وفيها الملك الواسع والاستعلاء العادل (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً).
وهكذا دخل القرآن على الناس من هذا الباب فقادهم من غرائزهم حتى ناط أوامره بمصالحهم ، ونواهيه بمفاسدهم ، وجعل ذلك قاعدة عامة قال فيها : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها). (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها).
وإن أردت تفصيلا وتمثيلا. فانظر إلى تلك المقارنة الرائعة بين المؤمن والمشرك إذ يقول سبحانه : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ.)