تربية النفوس على الحرمان وتعذيب الجسد ، وزادوا الطين بلة فقالوا : إن البعث روحانى مجرد عن إعادة الجسم ، مخدوعين بتلك النظرية الفلسفية الخاطئة وهى احتقار اللذات المادية وذمهم إياها بأنها حيوانية. وغاب عنهم أنها لا تكون نقصا إلا إذا سخر الإنسان عقله وقواه لها ، وأسرف فيها إسرافا يشغله عن اللذات العقلية والروحية القائمة على العلم النافع والعمل الصالح. أما إذا اعتدل فيها ووفق بين المطالب الروحية والجسمية ، فتلك مفخرة للإنسان وميزة لنوع الإنسان ، بها صار عالما عجيبا جمع بين روحانية الملائكة وجثمانية الحيوان والنبات ، وقد خلقه الله فى الدنيا مظهرا من مظاهر إبداعه واقتداره ، فكيف ينقص ملكوت الآخرة هذا المظهر العجيب ، على حين أن الآخرة هى دار العجائب والغرائب ، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؟! (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).
٥ ـ وكذلك ضل متطرفة اليهود فعكسوا الأمر ، وأفرطوا فى حب المادة حتى أحلوا لأنفسهم جمعها من أى ريق ، وبالغوا فى استنزاف دماء العالم بالربا وأكل أموال الناس بالباطل وظنوا أن لا جناح عليهم إذا رزءوا أى عنصر غريب عنهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ).
٦ ـ ولكن القرآن قد جاء يرد هؤلاء وهؤلاء إلى جادة الاعتدال ، ووقف موقفا وسطا يرجع إليه الغالى وينتهى إليه المقصر ، فأعلن عقيدته فى وضوح على نحو ما ذكرنا.
وتناول أخطاءهم المذكورة بالإصلاح والتقويم فقال فى معرض الرد على أنهم الشعب المختار : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ. وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وقال فى هذا المعرض أيضا : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ. إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) وقال أيضا : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ. مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً* وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ