(أولها) أن هذا قياس للغائب على الشاهد ، وقياس الغائب على الشاهد فاسد. ذلك أن الله تعالى ليس يشبه خلقه حتى يكون حكمه كحكمهم فى وجوب أن يكون له جهة من الجهات الست ما دام موجودا وكيف يقاس المجرد عن المادة بما هو مادى؟ ثم كيف يستوى الخالق وخلقه فى جريان أحكام الخلق على خالقه؟ إن المادى هو الذى يجب أن يتصف بشيء من هذه المتقابلات ، وأن تكون له جهة من تلك الجهات. أما غير المادى فترتفع عنه هذه الصفات كلها ، ولا يمكن أن تكون له أية جهة من هذه الجهات جميعها. ونظير ذلك أن الإنسان لا بد أن يكون له أخذ الوصفين ، فإما جاهل وإما عالم. أما الحجر فلا يتصف بواحد منها البتة ، فلا يقال : إنه جاهل ولا إنه عالم ، بل العلم والجهل مرتفعان عنه ، بل هما ممتنعان عليه لا محالة ، لأن طبيعته تأبى قابليته لكليهما. وهكذا تنتفى المتقابلات كلها بانتفاء قابلية المحل لها ، أيا كانت هذه المتقابلات ، وأيا كان هذا المحل الذى ليس قابلا لها. فيمتنع مثلا أن توصف الدار بأنها سميعة أو صماء ، وأن توصف الأرض بأنها متكلمة أو خرساء ، وأن توصف السماء بأنها متزوجة أو أيم ، وهلم جرا.
(ثانيا) نقول لهؤلاء : أين كان الله قبل أن يخلق العرش والفرش والسماء والأرض؟
وقبل أن يخلق الزمان والمكان وقبل أن تكون هناك جهات ست؟ فإن قالوا : لم يكن له جهة ولا مكان ، نقول : قد اعترفتم بما نقول نحن به ، وهو الآن على ما عليه كان ، لا جهة له ولا مكان. وإن زعموا أن العالم قديم بقدم الله ، فقد تداووا من داء بداء ، واستجاروا من الرمضاء بالنار ، ووجب أن ننتقل بهم إلى إثبات حدوث العالم ، والله هو ولى الهداية والتوفيق.
(ثالثا) نقول لهؤلاء : إذا كنتم تأخذون بظواهر النصوص على حقيقتها ، فما ذا تفعلون بمثل قوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) مع قوله : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ)؟ أتقولون إنه فى السماء حقيقة ، أم فى الأرض حقيقة ، أم فيهما معا حقيقة؟ وإذا كان فى الأرض وحدها حقيقة فكيف تكون له جهة فوق؟ وإذا كان فيهما معا حقيقة فلما ذا يقال