(ثالثتها) ما ذكره الفخر الرازى بقوله : «إن القرآن يشتمل على دعوة الخواص والعوام. وطبائع العوام تنبو فى أكثر الأمور عن إدراك الحقائق فمن سمع من العوام فى أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ، ظن أن هذا عدم ونفى محض ؛ فيقع فى التعطيل فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما تخيلوه وما توهموه ، ويكون ذلك مخلوطا بما يدل على الحق الصريح. فالقسم الأول وهو الذى يخاطبون به فى أول الأمر من باب المتشابه ، والقسم الثانى وهو الذى يكشف عن الحق الصريح هو المحكم» اه وهذه الحكمة ظاهرة فى متشابه الصفات.
(رابعتها) إقامة دليل على عجز الإنسان وجهالته ، مهما عظم استعداده وغزر علمه ، وإقامة شاهد على قدرة الله الخارقة ، وأنه وحده هو الذى أحاط بكل شىء علما ، وأن الخلق جميعا لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. وهنالك يخضع العبد ويخشع ، ويطامن من كبريائه ويخنع ، ويقول ما قالت الملائكة بالأمس : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم».
قال بعض العارفين : (العقل مبتلى باعتقاد أحقية المتشابه ، كابتلاء البدن بأداء العبادة. كالحكيم إذا صنف كتابا أجمل فيه أحيانا ، ليكون موضع خضوع المتعلم لأستاذه. وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سره. وقيل : لو لم يبتل العقل الذى هو أشرف البدن ، لاستمر العالم فى أبهة العلم على التمرد ، فبذلك يستأنس إلى التذلل بذل العبودية والمتشابه هو موضع خضوع العقول لبارئها ، استسلاما واعترافا بقصورها ، ولهذا ختم الآية يريد آية (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) بقوله. (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) تعريضا للزائغين ، ومدحا للراسخين. يعنى من لم يتذكر ويتعظ ويخالف هواه ، فليس من أولى العقول.