وندفع هذا الاستدلال بمثل ما دفعنا به سابقه ، وهو أن السنة ليست نابعة من نفس الرسول على أنها هوى منه وشهوة ؛ بل معانيها موحاة من الله تعالى إليه ، وكل ما استقل به الرسول أنه عبر عنها بألفاظ من عنده ، فهى وحى يوحى وليست من تلقاء نفسه على هذا الاعتبار ، وإذن فليس نسخ القرآن بها تبديلا له من تلقاء نفسه ، إنما هو تبديل بوحى.
(دليلهم الخامس) أن آية : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) تدل على امتناع نسخ القرآن بالسنة ، من وجوه ثلاثة : (أولها) أن الله تعالى قال : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) والسنة ليست خيرا من القرآن ولا مثله.
(ثانيها) أن قوله : «نأت» يفيد أن الآتى هو الله. والسنة لم يأت بها الله ، إنما الذى أتى بها رسوله.
(ثالثها) أن قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) يفيد أن النسخ لا يصدر إلا عمن له الاقتدار الشامل ، والملك الكامل ، والسلطان المطلق ، وهو الله وحده.
وندفع الوجه الأول من هذا الاستدلال بأن النسخ فى الآية الكريمة أعم من أن يكون فى الأحكام أو فى التلاوة ، والخيرية والمثلية أعم من أن يكونا فى المصلحة أو فى الثواب ، وقد سبق بيان ذلك. وإذن فقد تكون السنة الناسخة خيرا من القرآن المنسوخ من هذه الناحية ، وإن كان القرآن خيرا من السنة من ناحية امتيازه بخصائصه العليا دائما.
وندفع الوجه الثانى بأن السنة وحى من الله وما الرسول إلا مبلغ ومعبر عنها فقط.
فالآتى بها على الحقيقة هو الله وحده.