والخلاصة : إنّه تعالى ذكر في الآية الكريمة أوّلا جانب الإيمان وفعل الطاعات ، وعبّر عنه بصيغة الماضي ، دلالة على الاستمرار والتواصل : (الَّذِينَ أَحْسَنُوا). ثمّ ذكر جانب ترك المعاصي واجتناب المحرّمات ، وعبّر عنه بصيغة المضارع ، دلالة على اعتبار كون المؤمن بانيا على تركها وملتزما على نفسه اجتنابها ، الأمر الّذي لا يضرّه الاقتراف أحيانا : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)(١).
ففي هذا الاختلاف في التعبير ـ ماضيا ومضارعا ـ دلالة واضحة على أنّ سيّئة واحدة لا حقة ، ليست بالّتي تمحق الحسنات السابقة بأسرها ، كما رامه القائل بالحبط! فلا مساس للآية بمسأله الإحباط رأسا.
***
٣ ـ وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٢).
ربما يزعم البعض أنّ في الآية دلالة على الحبط بشأن المؤمنين أيضا. فإنّ الامتنان والأذى معصية تمحق حسنة الصدقة السابقة ، ومن ثمّ قال تعالى في الآية قبلها : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ)(٣).
قلت : إذا كان من شرط الصدقة ـ وهي عبادة ـ قصد الخلوص والقربة إلى الله ، لأنّها إنفاق في سبيل الله ، فإنّ المنّة على المتصدّق عليه مناقضة صريحة لماهيّة الصدقة ، وقلب لها من كونها قربة إلى كونها رياء وسمعة ، فضلا عن كونها أذى وهتكا لشخصيّة مسلمة كريمة.
فالصدقة مع المنّة ليست بصدقة في حقيقتها ، ومن ثمّ فلا حسنة كي تمحقها سيّئة ، فلا موضوع في الآية لمسألة الإحباط!
وهذا نظير ما كان أحد الصوفيّة يرتكبها ، كان يسرق ثمّ يتصدّق به ، زاعما أنّ الحسنة تقابل
__________________
(١) هود ١١ : ١١٤.
(٢) البقرة ٢ : ٢٦٤.
(٣) البقرة ٢ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣.