(وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى). فلا ينال أحدا مثوبات أعماله إلّا إذا كان مجتنبا للكبائر ، الأمر الّذي ينطبق على مذهب الإحباط ، حيث السيّئة اللّاحقة تذهب بالحسنات أدراج الرياح!
قلت : هذا بناء على اعتبار (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) بيانا من (الَّذِينَ أَحْسَنُوا) فيكون قيدا له. لكن قد يستشكل : كيف يصلح الفعل المستقبل بيانا للفعل الماضي؟! ومن ثمّ رجّح بعضهم كونه مستأنفا به ، أي هم الّذين يجتنبون ... أو يكون الموصول مبتدأ محذوف الخبر ، مدلولا عليه بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ.)
وعلى أيّ تقدير ، ففي التحوّل من لفظ الماضي أوّلا إلى لفظ المضارع ثانيا نكتة لطيفة ، هي ملاحظة ما لجانب الفعل المضارع من دلالته على الدأب والاعتياد الحاصل بالغلبة والأكثريّة ، الأمر الّذي لا يثلمه الخروج عنه مرّة أو مرّتين مثلا. فمن كان من عادته المشي بعد الأكل عادة حاصلة بالأغلب ، يصحّ في شأنه أن يقال : إنّه يمشي بعد الأكل. ولا يضرّ بهذا الإطلاق أن لا يمشي بعد الأكل أحيانا ، إذا لم يترك عادته رأسا.
فالمؤمن المعتقد هو الّذي يلتزم على نفسه بأن يجتنب المعاصي ولا يقترفها ، ولا يضرّه الاقتراف أحيانا على خلاف المعتاد. وهذا يصدق بشأنه «إنّه يجتنب الذنوب» أي يحاول بكلّ جهده اجتنابها ، وإن كان قد تعاكسه الظروف رغم عادته. وهذا هو معنى «اللمم» أي الاقتراف أحيانا رغم دأبه في الاجتناب.
ومن ثمّ قال تعالى ـ بشأن المؤمنين فيما يخصّ جانب تركهم للمعاصي ـ : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)(١). ولم يقل : «اجتنبوا» لأنّ الماضي يدلّ على تواصل الاجتناب في الماضي ، ويثلمه التخلّف في فترة أو فترات. فمن ارتكب كبيرة مرّة أو مرّات طول حياته ، لا يصدق بشأنه أنّه اجتنبها بصيغة الماضي ، لكن يصدق بشأنه أنّه مجتنب أو يجتنب المعاصي بصيغة اسم الفاعل أو المضارع!
ولذلك لمّا جاء دور معصية خصوص الشرك ، عبّر تعالى بصيغة الماضي : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها)(٢). لأنّها معصية غير مغتفرة وليست بالّتي لا تضرّ بالإيمان أن يقترفها المؤمن في حياته أحيانا!
__________________
(١) الشورى ٤٢ : ٣٧.
(٢) الزمر ٣٩ : ١٧.