فإن قيل : ما أنكرتم أن هاهنا طريقا إلى إثبات الكلام ، وهو مضادته للخرس والسكوت؟ قلنا : ليس للكلام ضد لا من جنسه ولا من غير جنسه ، وبعد ، فلو كان الخرس والسكوت يضادان الكلام ، لكانا لا يضادان إلا هذا الذي نسمعه نحن وأنتم ولا يعدون ذلك كلاما ، ويقال لهم أيضا : إن المرجع بالخرس إلى فساد يلحق آلة الكلام ، والسكوت هو أن لا يستعمل آلة الكلام فيه حالة قدرته على استعماله ، فلو كان ذلك ضد الكلام لكان لا ينبغي أن يصح من الله تعالى خلق الكلام في لسان الأخرس والساكت ، وإلا فقد اجتمع الضدان ، والمعلوم خلافه ، فبطل كلامهم هذا من كل وجه.
وإذ قد فرغنا من الكلام فيما يتعلق بالمعنى ، فإنا نتبع ما يستعملونه من العبارة ، ونحصل الكلام عليهم فيها فنقول :
قولكم : إن الكلام معنى قائم بذاته القديم تعالى يحتمل أمورا ، لأن القيام قد يذكر ويراد به الانتصاب ، كما يقال : فلان قائم ، أي منتصب ، وقد يذكر ويراد به الدوام ، كقوله : الحي القيوم أي الدائم ، وقد يذكر ويراد به الحفظ ، كما يقال : السقف قائم بالسارية أي محفوظ به على معنى أنه لولاه لسقط ، وقد يذكر ويراد به الحلول ، كما يقال : الكون قائم بالمحل ، وشيء من ذلك لا يتصور في هذه المسألة ، لأن الانتصاب والحلول وغيرهما مما لا يجوز على الله تعالى.
فإن قيل : إنا لا نريد بهذه العبارة شيئا من الأشياء ، وإنما نعني بها أنه موجود به. قلنا : إن هذه العبارة أيضا تستعمل في معنيين :
أحدهما : أنه واقع من جهته وأنه هو الذي فعله ، على ما يقال في السموات والأرض أنها موجودة بالله.
والثاني : أنه لولاه لما وجد ، كما يقال العرض موجود بمحله ، فإن أردتم به الأول ، فهو الذي نقوله ، إلا أنه يقتضي حدوثه ، وإن أردتم به الثاني فلا يصح ، لأنه يوجب أن يكون ذلك المعنى قائما بحياة القديم تعالى وبقدرته لا بذاته ، وقد عرف خلافه.
وقد دل بعد هذه الجملة على أن المتكلم هو فاعل الكلام ، ليفسد به ما ذهبوا إليه في هذا الباب.