وبعد : فلو كان كذلك ، لوجب إذا أمر أحدنا بالظلم والكذب أن يكون حسنا ، وإذا نهى عن العدل والإنصاف أن يكون قبيحا ، وأن لا يفترق الحال بين أن يكون من قبلنا وبين أن يكون من قبل الله تعالى ، لأن العلل في إيجابها الحكم لا تختلف بحسب اختلاف العاملين ، ألا ترى أن الحركة لما كانت علية في كون الذات متحركا لم تفترق الحال بين أن تكون من قبل الله تعالى وبين أن تكون من قبل غير الله تعالى ، كذلك هاهنا. وقد عرف خلافه.
وبعد ، فلو كان كذلك ، لوجب في الشيء الواحد أن يكون حسنا قبيحا دفعة واحدة ، بأن يأمر به بعضهم وينهى عنه الآخرون ، والمعلوم خلافه. فهذا إذا جعلوا العلة النهي.
فأما إذا جعلوا العلة في قبح القبيح كوننا مملوكين مربوبين محدثين ، كان الكلام عليهم أن حالنا مع الظلم والكذب وغيرهما من القبائح كحالنا مع العدل والإنصاف ، فيجب أن يكون العدل قبيحا لكوننا مملوكين مربوبين محدثين ، والمعلوم خلافه.
وبعد ، فلو كان كذلك ، لوجب فيمن لا يعرف كوننا مملوكين مربوبين محدثين أن لا يعرف قبح الظلم والكذب ، ومعلوم أن هؤلاء الدهرية يعرفون قبح الظلم ، وإن لم يعرفوا كوننا مملوكين مربوبين محدثين.
فإن قيل : قولكم إن القبيح إنما يقبح لوقوعه على وجه ، ومتى وقع على ذلك الوجه قبح من أي فاعل كان ، لا يصح لأن الإماتة بالهدم والغرق وغيره من الوجوه ، يحسن من الله تعالى ويقبح منا ، وكذلك فإيلام الأطفال والبهائم يحسن منه ويقبح منا فبطل ما ذكرتموه.
قيل له : إنما يحسن من الله تعالى الإماتة والإيلام لعلة ، تلك العلة مفقودة في حقنا ، وهي من جهة الله تعالى تتضمن الاعتبار واللطف ويضمن الله تعالى في مقابلها من الأعواض ما يوفي عليها. حتى لو خير أحدنا بين الألم مع تلك الأعواض وبين الصحة لاختار الألم ليصل إلى تلك الأعواض ، وليس كذلك الواحد منا فإنه لا يعرف المصلحة من المفسدة ، حتى يقال إن الإماتة والإيلام من جهته يتضمن اللطف والمصلحة ولا يضمن أيضا في مقابلها الأعواض الموفية عليها ، ففارق حالنا حال القديم تعالى ، حتى لو قدرنا وقوع ذلك من الله تعالى على الوجه الذي يقع منا لقبح ، أو وقوعه منا على الوجه الذي يقع من الله تعالى لحسن.