وعن الثاني : أن المراد من لفظ الجمع : كل من تأذّى بذلك الكذب ، ومعلوم أنه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ تأذّى بذلك وكذلك أبو بكر ومن يتصل به (١).
فإن قيل : فمن أي جهة يصير خيرا لهم مع أنه مضرّة؟
فالجواب : لوجوه :
أحدها : أنهم صبروا على ذلك الغم طلبا لمرضاة الله فاستوجبوا به الثواب وهذه طريقة المؤمنين.
وثانيها : لو لا إظهارهم الإفك كان يجوز أن يبقى الهمّ كامن في صدور البعض ، وعند الإظهار انكشف كذب القوم.
وثالثها : صار خيرا لهم لما فيه من شرفهم وبيان فضلهم من حيث نزلت ثماني عشرة آية ، كل واحدة منها مستقلة ببراءة عائشة ، وشهد الله بكذب القاذفين ، ونسبهم إلى الإفك ، وأوجب عليهم اللعن والذم ، وهذا غاية الشرف والفضل.
ورابعها : صيرورتها بحال تعلق الكفر بقذفها ، فإن الله لما نص على كون تلك الواقعة إفكا وبالغ في شرحه ، فكل من شك فيه كان كافرا قطعا ، وهذه درجة عالية (٢).
وقال بعضهم : قوله تعالى : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) خطاب مع القاذفين وجعل الله خيرا لهم من (٣) حيث كان هذا الذكر عقوبة معجلة كالكفارة ، ومن حيث تاب بعضهم عنده. وهذا القول ضعيف ، لأنه تعالى خاطبهم بالكاف ، ولما وصف أهل الإفك خاطبهم بالهاء بقوله : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) ، ومعلوم أن نفس ما اكتسبوه لا يكون عقوبة ، فالمراد : لهم جزاء ما اكتسبوه من العقاب في الآخرة والمذمة في الدنيا ، والمعنى : أن قدر العقاب يكون مثل قدر الخوض (٤).
قوله : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ). أي : الذي قام بإشاعة هذا الحديث وهو عبد الله بن (أبيّ ابن) (٥) سلول. والعذاب العظيم هو النار في الآخرة.
روي عن عائشة في حديث الإفك قالت : ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين ، وكانت عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس ، فقال عبد الله بن أبي رئيسهم : من هذه؟ قالوا : عائشة. قال : والله ما نجت منه ولا نجا منها ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ، ثم جاء يقودها. وشرع في ذلك أيضا حسان بن ثابت ، ومسطح ، وحمنة بنت جحش زوجة طلحة بن عبيد الله ، فهم الذين تولوا (٦) كبره. والأقرب أنه عبد الله بن أبيّ ، فإنه كان منافقا يطلب ما يقدح في (الرسول) (٧)(٨).
__________________
(١) المرجع السابق.
(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٤ ـ ١٧٥.
(٣) من : سقط من ب.
(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٥.
(٥) ما بين القوسين سقط من ب.
(٦) في الأصل : توا.
(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٥.
(٨) ما بين القوسين في ب : رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ.