والقول الثاني : أن هذا الحكم صار منسوخا. واختلفوا في ناسخه : فقال الجبائي : إن ناسخه هو الإجماع وعن سعيد بن المسيب أنه منسوخ بعموم قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)(١) ، (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ)(٢).
قال المحققون : هذان الوجهان ضعيفان ، أما قول الجبائي فلأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ، وأيضا فالإجماع الحاصل عقيب الخلاف لا يكون حجة ، والإجماع في هذه المسألة مسبوق بمخالفة أبي بكر وعمر وعلي ، فكيف يصح؟
وأما قوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) فلا يصلح أن يكون ناسخا ، لأنه لا بد من أن يشترط فيه ألا يكون هناك مانع من النكاح من سبب أو نسب أو غيرهما (٣).
ولقائل أن يقول : لا يدخل فيه تزويج الزانية من المؤمنين ، كما لا يدخل فيه تزويجها من الأخ وابن الأخ ، وأن للزنا تأثيرا في الفرقة ما ليس لغيره (٤) ، ألا ترى أنه إذا قذفها يتبعها بالفرقة على بعض الوجوه؟ ولا يجب مثل ذلك في سائر ما يوجب الحد ، ولأن الزنا يورث العار ، ويؤثر في الفراش ، ففارق غيره.
واحتج من ادعى النسخ بأن رجلا سأل النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : «يا رسول الله إن امرأتي لا تردّ يد لامس» ، قال : «طلّقها». قال : «إني أحبها ، وهي جميلة» ، قال : «استمتع بها». وفي رواية : «فأمسكها إذن» (٥).
وروي أن عمر بن الخطاب ضرب رجلا وامرأة في زنا وحرص أن يجمع بينهما ، فأبى الغلام. وبأن ابن عباس سئل عن رجل زنا بامرأة فهل له أن يتزوجها؟ فأجازه ابن عباس ، وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه.
وعن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه سئل عن ذلك فقال : «أوّله سفاح وآخره نكاح ، والحرام لا يحرّم الحلال».
الوجه الرابع : أن يحمل النكاح على الوطء ، والمعنى : أن الزاني لا يطأ حين يزني إلا زانية أو مشركة ، وكذا الزانية «وحرّم ذلك على المؤمنين» أي : وحرم الزنا على المؤمنين ، وهذا تأويل أبي مسلم ، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم ، ورواية الوالبي (٦) عن ابن عباس (٧).
__________________
(١) [النساء : ٣].
(٢) [النور : ٣٢].
(٣) في ب : أو غيرها. وهو تحريف.
(٤) في ب : في غيره.
(٥). أخرجه أبو داود (نكاح) ٢ / ٥٤١ ـ ٥٤٢ ، النسائي (نكاح) ٦ / ٦٧ ، (طلاق) ٦ / ١٧.
(٦) هو علي بن ربيعة بن نضلة الوالبي ، أبو المغيرة الكوفي ، أخذ عن علي وسلمان وأخذ عنه الحكم وأبو إسحاق.
خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٢ / ٢٤٨.
(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٠ ـ ١٥٢.