قرنوا به الاستبعاد العظيم ، فقالوا : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) ثم أكدوا (١) ذلك بقولهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) ولم يريدوا بقولهم : (نَمُوتُ وَنَحْيا) الشخص الواحد ، بل أرادوا أن البعض يموت والبعض يحيا ، وأنه لا إعادة ولا حشر فلذلك قالوا : (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) ثم بنوا على هذا فطعنوا في نبوّته وقالوا لما أتى في دينه بهذا الباطل فقد (افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ).
واعلم أنّ الله ـ تعالى ـ ما أجاب عن هاتين الشبهتين لظهور فسادهما أمّا الأولى : فتقدم الجواب عنها (٢). وأمّا إنكارهم الحشر والنشر فجوابه ، أنّه لمّا كان قادرا على كل الممكنات عالما بكل المعلومات وجب أن يكون قادرا (٣) على الحشر والنشر ، وأيضا : فلولا الإعادة لكان تسليط القويّ على الضعيف في الدنيا ظلما ، وهو غير لائق بالحكيم على ما تقرر في قوله تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ)(٤)(٥).
واعلم أنّ الرسول لمّا يئس (٦) من قبول دعوته فزع إلى ربّه وقال : (رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) وقد تقدّم تفسيره. فأجاب الله سؤاله وقال : (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ)(٧).
قوله : (عَمَّا قَلِيلٍ) في (ما) هذه وجهان :
أحدهما : أنّها مزيدة بين الجار والمجرور (٨) للتوكيد (٩) كما زيدت الباء نحو : (فَبِما رَحْمَةٍ)(١٠) ، وفي من (١١) نحو «مما خطاياهم» (١٢).
و «قليل» صفة لزمن محذوف ، أي : عن زمن قليل (١٣).
والثاني : أنّها غير زائدة ، بل هي نكرة بمعنى شيء أو زمن ، و «قليل» صفتها (١٤) ، أو بدل منها (١٥)(١٦) ، وهذا الجار فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنّه متعلق بقوله : «ليصبحنّ» ، أي : ليصبحن عن زمن قليل نادمين (١٧).
__________________
(١) في ب : ثم أكد.
(٢) تقدم قريبا.
(٣) في الأصل : قادا. وهو تحريف.
(٤) [طه : ١٥].
(٥) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٩٨ ـ ٩٩.
(٦) في ب : اليس. وهو تحريف.
(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٩.
(٨) البيان ٢ / ١٨٥ ، التبيان ٢ / ٩٥٥.
(٩) في الأصل : بالتوكيد.
(١٠) من قوله تعالى :«فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ»[آل عمران : ١٥٩].
(١١) انظر شرح الكافية الشافية ٢ / ٨١٦ شرح التصريح ٢ / ٢٠ ، الهمع ٢ / ٣٧ ـ ٣٨ ، شرح الأشموني ٢ / ٢٣٠.
(١٢) من قوله تعالى : «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً»[نوح : ٢٥].
و «خطاياهم» قراءة أبي عمرو ، وقراءة الباقين «خطيئاتهم» انظر السبعة (٦٥٣) ، الكشف ٢ / ٢٣٧.
(١٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٥.
(١٤) في الأصل : صفتهما.
(١٥) في ب : منهما.
(١٦) انظر التبيان ٢ / ٩٥٥.
(١٧) انظر التبيان ٢ / ٩٥٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٦.