الأول : أن ما وعده فهو في تحققه كأنه قد كان ؛ ولأنه قد كان مكتوبا في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم الله بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم (ومصيرا) (١)(٢).
قوله : (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) هو نظير قوله : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) [فصلت: ٣١] ، (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ)(٣). فإن قيل : أهل الدرجات النازلة إذا شاهدوا الدرجات العالية لا بد وأن يريدوها ، فإذا سألوها ربهم ، فإن أعطاها لم يبق بين الناقص والكامل تفاوت في الدرجة ، وإن لم يعطها قدح ذلك في قوله (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) ، وأيضا فالأب إذا كان ولده في دركات النيران وأشد العذاب فلو اشتهى أن يخلصه الله تعالى (٤) من ذلك العذاب ، (فلا بد وأن يسأل ربه أن يخلصه منه) (٥) ، فإن فعل قدح ذلك في أن عذاب الكافر مخلد ، وإن لم يفعل قدح ذلك في قوله: (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) [فصلت : ٣١] ، وفي قوله : (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ) (٦).
والجواب أن الله تعالى يزيل (٧) هذا الخاطر عن قلوب أهل الجنة ويشتغلون (٨) بما هم فيه من اللذات عن الالتفات إلى حال غيرهم (٩).
قوله : «خالدين» منصوب على الحال ، إما من فاعل «يشاءون» وإما من فاعل «لهم»(١٠) ، لوقوعه خبرا ، والعائد على «ما» محذوف ، أي : لهم فيها الذي يشاءونه حال كونهم خالدين.
قوله : (كانَ عَلى رَبِّكَ) في اسم «كان» وجهان :
أحدهما : أنه ضمير (ما يَشاؤُنَ) ذكره أبو البقاء (١١).
والثاني : أن (١٢) يعود على الوعد المفهوم من قوله (وُعِدَ الْمُتَّقُونَ)(١٣). و «مسؤولا» على المجاز ، يسأل هل وفى لك أم لا ، أو يسأله من وعد به.
فصل
قوله : (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) يدل على أن الجنة حصلت بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق كما تقدم (١٤). وقوله : «مسؤولا» أي : مطلوبا ، قيل : إنّ المتقين سألوا
__________________
(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٨ ـ ٥٩.
(٢) ما بين القوسين سقط من الأصل.
(٣) [الزخرف : ٧١] و «تشتهي» بغير هاء بعد الياء قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر ، والباقون «تشتهيه» بهاء بعد الياء. السبعة (٥٨٨ ـ ٥٨٩).
(٤) تعالى : سقط من ب.
(٥) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.
(٦) ما بين القوسين في ب : ما لهم ما يشاءون.
(٧) في ب : يزيد. وهو تحريف.
(٨) في ب : ويشغلون.
(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٩.
(١٠) انظر البيان ٢ / ٢٠٣. التبيان ٢ / ٩٨١.
(١١) قال أبو البقاء : (الضمير في «كان» يعود على «ما») التبيان ٢ / ٩٨٢. وانظر أيضا الكشاف ٣ / ٩.
(١٢) في ب : أنه.
(١٣) من الآية السابقة (١٥). التبيان ٢ / ٩٨٢.
(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٠.