والمعلم يتعهد تلاميذه البادئين بأسهل المعلومات ، ثم يتدرج بهم من الأسهل إلى السهل ، ومن السهل إلى الصعب ، ومن الصعب إلى الأصعب ، حتى يصل بهم إلى أدق النظريات ، مقتضيا فى ذلك آثار خطاهم إلى السمو الفكرى. والكمال العقلى.
كذلك الأمم تتقلب كما يتقلب الأفراد فى أطوار شتى. فمن الحكمة فى سياستها وهدايتها أن يصاغ لها من التشريعات ما يناسب حالها فى الطور الذى تكون فيه ، حتى إذا انتقلت منه إلى طور آخر لا يناسبه ذلك التشريع الأول ، حق أن يصاغ لها تشريع آخر يتفق وهذا الطور الجديد. وإلا لاختل ما بين الحكمة والأحكام من الارتباط والإحكام ، ولم يجر تدبير الخلق على ما نشهده من الإبداع ودقة النظام!.
وإلى هذا الدليل تشير الآية الكريمة : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها). فإنه يفهم منها أن كل آية يذهب بها الله تعالى على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معا ، إلى بدل أو إلى غير بدل ، فإنه ـ جلت حكمته ـ يأتى عباده بنوع آخر هو خير لهم من الآية الذاهبة أو مثلها. والخيرية قد تكون فى النفع وقد تكون فى الثواب ، وقد تكون فى كليهما. أما المثلية فلا تكون إلا فى الثواب فقط. وذلك لأن المماثلة فى النفع لا تتصور ، لأنه على تقدير ارتفاع الحكم الأول فإن المصلحة المنوط بها ذلك الحكم ترتفع ، ولا تبقى إلا مصلحة الآية المأتى بها ، فتكون خيرا من الذاهبة فى نفعها لا محالة. وإذا قدر بقاء الحكم الأول وكان النسخ للتلاوة وحدها ، فالمصلحة الأولى باقية على حالها ، لم يجد غيرها حتى يكون خيرا منها أو مثلها (الدليل الثانى) ـ وهو دليل إلزامى للمنكرين ـ أن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا ، لما جوزوا أن يأمر الشارع عباده بأمر مؤقت ينتهى بانتهاء وقته ، لكنهم يجوزون هذا عقلا ويقولون بوقوعه سمعا ، فليجوزوا هذا ، لأنه لا معنى