بمقياس واحد من البيان ، بل يظهر أنه يماثله أو يقاربه فى خصائصه ، وإن كان على صورة بيانية غير صورته. هذا هو ما يتحداهم به الرسول ، وهو القدر الذى يتنافس فيه البلغاء عادة فيتماثلون أو يتفاضلون ، مع احتفاظ كل منهم بمنهاجه الخاص ونمطه المعين.
ومثال ذلك أن يتبارى قوم فى العدو والجرى إلى هدف واحد ، ويرسم لكل واحد من هؤلاء المتبارين طريق معين بحيث لا يمشى أحدهم من طريق صاحبه ، ولا يضع قدمه فى موضع قدم أخيه. بل يمشى فى طريقه هو غير مزاحم ولا مزاحم ، ويسير موازيا لقرنه فى المبدأ وفى الاتجاه ، ثم يمضون جميعا إلى الهدف المشترك الذى إليه يتسابقون ، وإذا هم بعد ذلك بين سابق مبرز ، ولا حق متخلف ، ومساو متكافئ. دون أن يكون اختلاف طرقهم قادحا فيما يكون بينهم من هذا التفاضل أو التماثل. بل يعرف التناسب بينهم بمعرفة نسبة ما قطعه كل من طريقه إلى ذلك الهدف المشترك ... كذلك المتنافسون فى ميدان البيان ، يختار كل منهم طريقته التى يستمدها من مزاجه الشخصى واستعداده الخاص للوصول إلى الغاية البيانية العامة. ثم هم بعد ذلك يتفاوتون أو يتعادلون ، بمقدار وفائهم بخصائص البيان أو نقصهم منها. فالمدعوون إلى معارضة القرآن إن افترضتهم أكفاء لنبى القرآن فسيأتون بمثل ما جاء به ، وإن افترضتهم أعلى منه كعبا فسيأتون بأحسن مما جاء به. وإن افترضتهم دونه فلن يشق عليهم أن يأتوا بقريب مما جاء به ، مع احتفاظ كل منهم بنمطه فى الكلام ومنهجه فى البيان. لكن شيئا من هذه المراتب الثلاث لم يكن. فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثل القرآن ولا بما يعلوه ولا بما يقرب منه ، لا بالنسبة إليه كله ، ولا بالنسبة لعشر سور ، ولا بالنسبة لسورة واحدة من مثله ، لا منفردين ولا مجتمعين ولو كان معهم الإنس والجن وكان بعضهم لبعض ظهيرا. يضاف إلى ذلك أنهم كانوا أئمة البيان ونقدة الكلام. وكانوا أهل إباء وضيم يحرصون على الغلبة فى هذه الحلبة من معارضة القرآن.
أليس ذلك بدليل كاف على أن هذا الكتاب تنزيل العزيز الرحيم ولا يمكن أن يكون كلام محمد ولا غير محمد من المخلوقين؟!