(وأما الفرض الثانى) فينقضه الواقع التاريخى أيضا. ودليلنا على هذا ما تواترت به الأنباء ، من أن بواعث العرب إلى المعارضة قد وجدت سبيلها إلى نفوسهم ، ونالت منالها من عزائمهم. فهبوا هبة رجل واحد يحاولون القضاء على دعوة القرآن بمختلف الوسائل ؛ فلم يتركوا طريقا إلا سلكوه ، ولم يدعوا بابا إلا دخلوه.
لقد آذوه صلىاللهعليهوسلم وآذوا أصحابه ، فسبوا من سبوا ، وعذبوا من عذبوا ، وقتلوا من قتلوا.
ولقد طلبوا إلى عمه أبى طالب أن يكفه ، وإلا نازلوه وإياه.
ولقد قاطعوه وقاطعوا أسرته الكريمة لا يبيعون لهم ولا يبتاعون ولا يتزوجون منهم ولا يزوجون ، واشتد الأمر حتى أكلت الأسرة الكريمة ورق الشجر.
ولقد فاوضوه أثناء هذه المقاطعة التى تلين الحديد مفاوضات عدة وعرضوا عليه عروضا سخية مغرية ، منها أن يعطوه حتى يكون أكثرهم مالا ، وأن يعقدوا له لواء الزعامة فلا يقطعوا أمرا دونه ، وأن يتوجوه ملكا عليهم إن كان يريد ملكا ، وأن يلتمسوا له الطلب إن كان به مس من الجن. كل ذلك فى نظير أن يترك هذا الذى جاء به. ولما أبى عليهم ذلك عرضوا عليه أن يهادنهم ويداهنهم ، فيعبد آلهتهم سنة ويعبدون إلهه سنة. فأبى أيضا ونزل قول الله. (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) ونزلت كذلك سورة الكافرون.
ولقد صادروه وصادروا أصحابه فى عبادتهم ، وانبعث شقى منهم فوضع النجاسة على ظهره صلىاللهعليهوسلم وهو يصلى. وخنقه طاغية من طواغيتهم لو لا أن جاء أبو بكر فدفعه وقال : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ؟) ولقد اتهموه صلىاللهعليهوسلم مرة بالسحر ، وأخرى بالشعر ، وثالثة بالجنون ، ورابعة بالكهانة. وكانوا يتعقبونه وهو يعرض نفسه على قبائل العرب أيام الموسم ، فيبهتونه ويكذبونه أمام من لا يعرفونه. ولقد شدوا وطأتهم على أتباعه حتى اضطروهم أن يهاجروا من وطنهم ، ويتركوا أهلهم وأولادهم وأموالهم فرارا إلى الله بدينهم.