يبتكر بعبقريته أمرا هو مفخرة المفاخر ومعجزة المعجزات ، ثم يقول للعالم فى صراحة : ليس هذا الفخر فخرى ، وما هو من صنعى ، وما كان لدى استعداد أن آتى بشيء منه ، وأنتم تعرفوننى وتعرفون استعدادى من قبل؟
ألا إن هذا يخالف العقل والمنطق ، ويجافى العرف والعادة ، وينافى مقررات علم النفس وعلم الاجتماع ، فإن النفوس البشرية مجبولة على الرغبة فى جلائل الأمور ومعاليها ، مطبوعة على حب كل ما يخلد ذكرها ويرفع شأنها ، لا سيما إذا كان ذلك نابعا منها وصادرا عنها ، وكان صاحب هذه النفس صدوقا ما كذب قط ، رافعا عقيرته بزعامة الناس ودعوتهم إلى الحق. وليس شىء أجل شأنا ولا أخلد ذكرا من القرآن الكريم ، الذى جمع الله به شمل أمة ، وأقام به خير ملة ، وأسس به أعظم دولة فما كان لمحمد أن يزهد فى هذا المجد الخالد ، ولا أن يتنصل من نسبته إليه لو كان من وصفه وصنعه ، وهو يدعو الخلق إلى الإيمان به وبما جاء به!.
وأى وجه لمحمد فى أن يتنصل من نسبة القرآن إليه وهو صاحبه؟ إنه إن كان يطلب الوجاهة والعلو والمجلد ، فليس شىء أوجه له ولا أعلى ولا أمجد من أن يكون هذا القرآن كلامه وإن كان يطلب هداية الناس ، فالناس يسرهم أن يأخذوا الهداية مباشرة ممن يعجز الجن والإنس بكلامه ، ويتحدى كل جيل وقبيل ببيانه ، ويقهر كل معارض ومكابر ببرهانه. ولو كان القرآن من تأليف محمد لأثبت به ألوهيته بدلا من نبوته ، لأن هذا القرآن لا يمكن أن يصدر إلا عن إله كما بينا فى الوجوه السالفة للإعجاز ، وإذن لكانت تلك الألوهية أبلغ فى نجاح دعوته ، وأرجى فى ترويج ديانته ، لأن الناس تبهرهم الألوهية. أكثر مما تبهرهم النبوة ، ويشرفهم أنهم أتباع إله أكثر من أن يشرفهم أنهم أتباع رسول لم يخرج ولن يخرج يوما من أرض العبودية ، ولم يرتق ولن يرتقى يوما إلى سماء الربوبية.
«العبد عبد وإن تعالى |
|
والمولى مولى وإن تنزل» |
ولهذا كان أعداء الرسل كثيرا ما يعظم عليهم أن يخضعوا لرجل منهم ، وكانوا يعجبون أن يوحى إلى بشر مثلهم ويقترحون أن يروا الله جهرة أو تنزل لهم الملائكة عيانا.