وإنما انفرد القرآن بهذه المزية لحم سامية ، وفوائد ذات شأن :
(أولها) توفير عامل مهم من عوامل المحافظة على القرآن وبقائه مصونا من التغيير والتبديل اللذين أصابا كتب الله من قبل. ذلك أن هذا الأجر العظيم الذى وعده الله من يتلو كتابه العزيز ولو غير متفهم لمعانيه ، من شأنه أن يجب الناس فى قراءة القرآن ويدفعهم إلى الإكثار منها ، ويحركهم إلى استظهاره وحفظه. ولا ريب أن انتشار القراءة والقراء والحفاظ ، يجعل القرآن كثير الدوران على الألسنة ، واضح المعالم فى جميع الأوساط والطبقات ، وهنا لا يجرؤ أحد على تغيير شىء فيه ، وإلا لقى أشد العنت من عارفيه ، كما حدث لبعض من حاولوا هذا الإجرام ، من أعداء الإسلام.
(ثانيها) إيجاد وحدة للمسلمين لغوية ، تعزز وحدتهم الدينية ، وتيسر وسائل التفاهم والتعاون فيما بينهم ، فتقوى بذلك صفوفهم ، وتعظم شوكتهم ، وتعلو كلمتهم.
وتلك سياسة إلاهية عالية ، فطن لها الإسلام على يد هذا النبى الأمى فى عهد قديم من عهود التاريخ ، ونجحت هذه السياسة نجاحا باهرا ، حتى انصوى تحت اللسان العربى أمم كثيرة مختلفة اللغات ، ونبغ منهم نابغون سبقوا كثيرا من العرب فى علوم القرآن وعلوم لغة القرآن ، بينما أمم كبيرة فى هذا العصر الحديث الذى يزعمونه عصر العلم والنور ، قد حاولت مثل هذه المحاولة بتقرير لسان عام ولغة عالمية مشتركة أسموها لغة «الاسبرنتو» ، فكانت محاولة فاشلة ، فضلا عن أنها جاءت مسبوقة متأخرة.
(ثالثها) استدراج القارئ إلى التدبر والاهتداء بهدى القرآن عن طريق هذا الترغيب المشوق ، وبوساطة هذا الأسلوب الحكيم.
فإن من يقرأ القرآن فى يومه وهو غافل عن معانيه ، يقرؤه فى غده وهو ذاكر لها. ومن قرأه فى غده وهو ذاكر لها ، أوشك أن يعمل بعد غد بهديها. وهكذا ينتقل القارئ من درجة إلى درجة أرقى منها ، حتى يصل إلى الغاية بعد تلك البداية. «كل من سار على