(المثال الأول) استفادة وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء فى الطهارة ، أخذا من مخالفة مقتضى الظاهر فى ذكر هذه الأعضاء بآية الوضوء ، إذ يقول الله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ، وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ). فأنت ترى أنه ـ تعالت حكمته ـ ذكر الرأس وهو ممسوح بين الأعضاء الأخرى وهى مغسولة ، وكان مقتضى الظاهر أن تتصل المغسولات بعضها ببعض وتذكر قبل الممسوح أو بعده لأن المغسولات متماثلة ، والعرب لا تفصل بين المتماثلات إلا لحكمة. والحكمة هنا هى إفادة وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء فى الطهارة. على نمط الترتيب الماثل فى هذه الآية.
وثمة وجه آخر لاستفادة حكم هذا الترتيب أيضا. ذلك أن الآية المذكورة لم تعرض فيها أعضاء الوضوء مرتبة ترتيبا تصاعديا ولا ترتيبا تنازليا ، فلم يبدأ فيها بالأعالى متبوعة بالأسافل ولا بالأسافل متبوعة بالأعالى ، بل ذكر فيها عال ثم سافل ثم أعلى ثم أسفل ، وذلك خلاف مقتضى الظاهر ، ومثله لا يصدر فى لغة العرب إلا لحكمة وما الحكمة هنا فيما نفهم إلا إفادة وجوب الترتيب فى الوضوء. وبهذا قال الشافعية والحنابلة وإن خالفهم الحنفية والمالكية.
(المثال الثانى) استفادة وجوب مسح ربع الرأس فى الوضوء ، أخذا من مخالفة مقتضى الظاهر أيضا فى قوله سبحانه : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) حيث دخلت باء الجر على الرءوس وهى الممسوحة ، مع أن الظاهر كان يقتضى دخولها على آلة المسح وهى راحة اليد ، ولكن مخالفة هذا الظاهر فى كلام عربى بليغ ، دلتنا على أنه نزل الرأس منزلة آلة المسح إرشادا إلى أن اليد توضع على الرأس وتحرك عليه كأننا مسحنا اليد بالرأس. وبهذه الطريقة تتمسح الناصية عادة ، وهى تقدر بربع الرأس ، فالواجب إذن هو مسح ربع الرأس ، وبهذا أخذ الحنفية ، وإن خالفهم الأئمة الثلاثة (رضوان الله عليهم أجمعين).