وتنوع مقاصده ، وافتنانه وتلوينه فى الموضوع الواحد. وآية ذلك أنك إذا تأملت فى القرآن الكريم ؛ وجدت منه جسما كاملا تربط الأعصاب والجلود والأغشية بين أجزائه ولمحت فيه روحا عاما يبعث الحياة والحس على تشابك وتساند بين أعضائه. فإذا هو وحدة متماسكة متآلفة ، على حين أنه كثرة متنوعة متخالفة. فبين كلمات الجملة الواحدة من التآخى والتناسق ، ما جعلها رائعة التجانس والتجاذب وبين جمل السورة الواحدة من التشابك والترابط ، ما جعلها وحدة صغيرة متآخذة الأجزاء متعاقبة الآيات. وبين سور القرآن من التناسب ما جعله كتابا سوىّ الخلق حسن السمت ، (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ). فكأنما هو سبيكة واحدة تأخذ بالأبصار وتلعب بالعقول والأفكار ، على حين أنها مؤلفة من حلقات ، لكل حلقة منها وحدة مستقلة فى نفسها ذات أجزاء ، ولكل جزء وضع خاص من الحلقة ، ولكل حلقة وضع خاص من السبيكة ، لكن على وجه من جودة السبك وإحكام السرد ، جعل من هذه الأجزاء المنتشرة المتفرقة ، وحدة بديعة متآلفة ، تريك كمال الانسجام بين كل جزء وجزء ، ثم بين كل حلقة وحلقة ثم بين أوائل السبيكة وأواخرها وأواسطها.
يعرف هذا الإحكام والترابط فى القرآن ، كل من ألقى باله إلى التناسب الشائع فيه ، من غير تفكك ولا تخاذل ، ولا انحلال ولا تنافر بينما الموضوعات مختلفة متنوعة ، فمن تشريع إلى قصص إلى جدل إلى وصف إلى غير ذلك. وكتب التفسير طافحة ببيان المناسبات ، فنحيلك عليها ، ونكتفى بمثل واحد نضربه مع الاختصار والاقتصار.
هذه سورة الفاتحة ، تأمل كيف تترابط وتتناسق فى حسن تخلص من معنى إلى معنى ، ومن مقصد إلى مقصد : لقد افتتحت متوجة «باسم الله» كما يتوج القاضى كل حكم من أحكامه باسم جلالة الملك ، لإعلان الجهة التى يستمد منها نفوذه فى صدور أحكامه ، ثم انتقل الكلام فيها سريعا إلى الاستدلال على أن الاستعانة إنما هى به تعالى وحده ، وذلك بإضافة الاسم إلى لفظ الجلالة الذى هو اسم الذات الجامع لصفات الكمال ، وبوصف لفظ الجلالة بأنه