ولقد علمت أن حمل المتشابهات فى الصفات على ظواهرها مع القول بأنها باقية على حقيقتها ، ليس رأيا لأحد من المسلمين ، وإنما هو رأى لبعض أصحاب الأديان الأخرى كاليهود والنصارى ، وأهل النحل الضالة كالمشبهة والمجسمة. أما نحن ـ معاشر المسلمين ـ فالعمدة عندنا فى أمور العقائد هى الأدلة القطعية ، التى توافرت على أنه تعالى ليس جسما ولا متحيزا ولا متجزئا ولا متركبا ، ولا محتاجا لأحد ، ولا إلى مكان ولا إلى زمان ، ولا نحو ذلك : ولقد جاء القرآن بهذا فى محكماته إذ يقول : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ويقول : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ* وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ويقول : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ، وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ. وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) ويقول (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ. وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وغير هذا كثير فى الكتاب والسنة ، فكل ما جاء مخالفا بظاهره لتلك القطعيات والمحكمات ، فهو من المتشابهات التى لا يجوز اتباعها ، كما تبين لك فيما سلف.
ثم إن هؤلاء المتمسحين فى السلف متناقضون ، لأنهم يثبتون تلك المتشابهات على حقائقها ، ولا ريب أن حقائقها تستلزم الحدوث وأعراض الحدوث كالجسمية والتجزؤ والحركة والانتقال ، لكنهم بعد أن يثبتوا تلك المتشابهات على حقائقها ينفون هذه اللوازم ، مع أن القول بثبوت الملزومات ونفى لوازمها تناقض لا يرضاه لنفسه عاقل فضلا عن طالب أو عالم. فقولهم فى مسألة الاستواء الآنفة : إن الاستواء باق على حقيقته يفيد أنه الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيز ، وقولهم بعد ذلك ليس هذا الاستواء على ما نعرف ، يفيد أنه ليس الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيز. فكأنهم يقولون : إنه مستو غير مستو ، ومستقر فوق العرش غير مستقر ، أو متحيز غير متحيز وجسم غير جسم ، أو أن الاستواء على العرش ليس هو الاستواء على العرش. والاستقرار فوقه ليس هو الاستقرار فوقه ، إلى غير ذلك من الإسفاف والتهافت! فإن أرادوا بقولهم الاستواء على حقيقته ؛ أنه على حقيقته التى يعلمها الله ولا نعلمها نحن ، فقد اتفقنا ، لكن بقى أن تعبيرهم هذا موهم ، لا يجوز أن يصدر