للحياة يسمح للإنسان أن يستخدم كلّ طاقاته ، ومن بينها طاقاته العقليّة ، الّتي تقوم هي بعد تنشئتها على استقامة ، وإطلاق المجال لها لتعمل ـ بالبحث العلمي ـ في الحدود المتاحة للإنسان ـ وبالتجريب والتطبيق ـ وتصل إلى ما تصل إليه من نتائج ، وليست نهائيّة ولا مطلقة بطبيعة الحال.
إنّ مادّة القرآن الّتي يعمل فيها ، هي الإنسان ذاته ، تصوّره واعتقاده ومشاعره ومفهوماته ، وسلوكه وأعماله ، وروابطه وعلاقاته. أمّا العلوم المادّيّة ، والإبداع في عالم المادّة بشتّى وسائله وصنوفه ، فهي موكولة إلى عقل الإنسان وتجاربه وكشوفه وفروضه ونظريّاته ، بما أنّها أساس خلافته في الأرض ، وربما أنّه مهيّأ لها بطبيعة تكوينه. والقرآن يصحّح له فطرته كي لا تنحرف ولا تفسد ، ويصحّح له النظام الّذي يعيش فيه كي يسمح له باستخدام طاقاته الموهوبة له ، ويزوّده بالتصوّر التامّ لطبيعة الكون وارتباطه بخالقه وتناسق تكوينه ، وطبيعة العلاقة القائمة بين أجزائه ـ وهو أي الإنسان أحد أجزائه ـ ثمّ يدع له أن يعمل في إدراك الجزئيّات والانتفاع بها في خلافته. ولا يعطيه التفصيلات ، لأنّ معرفة هذه التفصيلات جزء من عمله الذاتيّ.
قال سيّد قطب : وإنّي لأعجب لسذاجة المتحمّسين لهذا القرآن ، الّذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه ، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه ، وأن يستخرجوا منه جزئيّات في علوم الطبّ والكيمياء والفلك وما إليها. كأنّما ليعظّموه بهذا ويكبّروه!
إنّ القرآن كتاب كامل في موضوعه ، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلّها. لأنّه هو الإنسان ذاته ، الّذي يكشف هذه المعلومات وينتفع بها ، والبحث والتجريب والتطبيق من خواصّ العقل في الإنسان. والقرآن يعالج بناء هذا الإنسان نفسه ؛ بناء شخصيّته وضميره وعقله وتفكيره ، كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الّذي يسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه ، وبعد أن يوجد الإنسان السليم التصوّر والتفكير والشعور ، ويوجد المجتمع الّذي يسمح له بالنشاط ، يتركه القرآن يبحث ويجرّب ، ويخطىء ويصيب ، في مجال العلم والبحث والتجريب ، وقد ضمن له موازين التصوّر والتدبّر والتفكير الصحيح.
كذلك لا يجوز أن نعلّق الحقائق النهائيّة الّتي يذكرها القرآن أحيانا عن الكون ، في طريقه لإنشاء التصوّر الصحيح لطبيعة الوجود وارتباطه بخالقه ، وطبيعة التناسق بين أجزائه. لا يجوز أن نعلّق هذه الحقائق النهائيّة الّتي يذكرها القرآن ، بفروض العقل البشريّ ونظريّاته ، ولا حتّى بما