من كلّم غيره ورفع صوته فوق صوته ، أنّ ذلك على وجه الاستخفاف به ، فلذلك نهاهم عنه» (١).
وبعد فلعلّ الآية بذاتها ظاهرة فيما نقوله ، وأنّ الحبط فيها يمسّ جانب رذيلة الاستخفاف بمقام النبيّ الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم ، المفضي في نهاية الأمر إلى الاستهانة بشأنه الرفيع ، وإن كان صاحبه لا يشعر بذلك ، حيث التعوّد عليه في متعارفهم الهابط!
ذلك أنّ الإنسان إذا ارتكب رذيلة ممّا لم يرتكبها من قبل ، ندم عليها أشدّ الندم ، لكنّه إذا ارتكبها مرارا فإنّ خشيته تقلّ وخوفه يتضاءل ، ولا يندم كندمه في البدء ، وربما أوجب التكرار عادة يعتادها الإنسان من غير أن يحسّ بقبحها تدريجيّا! فعلى الإنسان النابه السائر في طريق التهذيب والكمال أن يسدّ على نفسه خلل المعاصي منذ البدء ، حيث الانقلاع في بدء الأمر هيّن وفي الغضون صعب. وربما ينتهي الأمر إلى ما لا يراه مستنكرا ولا قبيحا فيما بعد.
وعليه فلا شكّ أنّ رفع الصوت فوق صوت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والجهر له بالكلام بما يشبه الصياح ، خلاف الأدب ، واستهانة بمقامه الكريم ، وهي رذيلة قبيحة تؤدّي بصاحبها تدريجيّا ـ إذا أصرّ عليها ـ إلى الاستخفاف به صلىاللهعليهوآلهوسلم واستحقاره والتنزّل بمقامه السامي الرفيع ـ العياذ بالله ـ الأمر الّذي ينتهي في نهاية المطاف إلى استصغار مقام النبوّة ، وربما إلى إنكارها ، واعتبار النبيّ كأحدهم من سائر الناس ، لا مزيّة له ولا منزلة شامخة ، وهو على حدّ الكفر والارتداد وربما بلغه المرتكب لا عن شعوره.
يدلّ على ذلك شواهد من السورة نفسها :
أوّلا ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ)(٢). كان أحدهم قد يتقدّم على رسول الله في مشيه استكبارا بنفسه واستعظاما لزعامته على أفراد قبيلته ، كان يحسبهم كثرة ذوي عزّة ، تجاه قبيلة النبيّ ذات قلّة في نظرهم. وهي إهانة بمقام النبيّ العظيم بلا شكّ. ومن ثمّ حذّرهم تعالى بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي احذروا نكال هذه الرذيلة السيّئة وهذا الذنب الخطير.
ثانيا ـ قوله : (كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)(٣) يدلّ على أنّهم كانوا يحسبون من شموخ مقامه
__________________
(١) التبيان ٩ : ٣٤٠.
(٢) الحجرات ٤٩ : ١.
(٣) الحجرات ٤٩ : ٢.